امينة خيري
على رغم قوة منصات المشاهدة، وبأس الـ"يوتيوب" والـ"ريلز" الجامعة لأبرز أحداث مسلسل هنا أو برنامج ساخن هناك، ما زال لدى رمضان القدرة على أن يحتفظ لنفسه بلقب "شهر المشاهدة التلفزيونية" و"مفجر الانتقادات الفنية والاجتماعية الشعبية". وما زال رمضان يتيح للمهتمين رصد ظواهر فنية تعكس حقائق فعلية، ومتابعة ما استجد على الشاشة باعتباره مؤشراً لما يضج به الشارع والبيت والسوق والعلاقات من تغيرات وتحولات.
جرعات تلفزيونية
الجرعات التلفزيونية الرمضانية هي بصورة أو بأخرى لسان حال الناس، وفي أقوال أخرى مؤثر رئيس في تشكيل لسان حال الناس. تتأثر وتؤثر، تعكس وتصنع، لكنها أيضاً باتت تجد نفسها وبصورة متصاعدة في السنوات القليلة الماضية، في خانة الاتهام بالتسبب في تدني الأخلاق وتدهور السلوكيات، وأحياناً في دفع الفئات الهشة من المشاهدين والمشاهدات إلى أحضان منظومات اجتماعية يراها بعضهم متدنية، واعتناق مفاهيم حياتية ينتقدها مهتمون بالشأن العام باعتبارها تدفع بالمجتمع نحو الهاوية.
الهاوية الرمضانية الممتدة من بعد الإفطار مباشرة وحتى فجر اليوم التالي، ويعاد غالبها عقب الفجر وحتى موعد الإفطار متخمة بمحتوى درامي وإعلاني وبرامجي يدق على الرؤوس والعقول والقلوب بلا هوادة على مدار 29 أو 30 يوماً بحسب رؤية هلال العيد.
صدمة ما بعد الزمن الجميل
المحبوسون في "دراما الزمن الجميل" و"برامج رمضان التنويرية والتثقيفية"، ولأنهم ممسكون بتلابيب الشهر الفضيل باعتباره مناسبة سنوية لعرض الأعمال التي يتنافس فيها المبدعون والمبدعات للاستحواذ على متابعة المشاهدين والمشاهدات عبر أعمال راقية، تناقش قضايا هادفة، بلغة حوارية هادئة، تمر بلجان مشاهدة وتقييم وتصحيح ناضجة بغرض تنقيح الفكر العام وتصحيح السلوك الجمعي، مصابون منذ سنوات قليلة بأعراض صدمة ما بعد الزمن الجميل.
تتجسد أعراض الصدمة في دهشة المشاهدة وحيرة المتابعة المصحوبتين برفض المحتوى ونبذ الفكرة والمغزى والرسالة (إن وجدت)، فقبل سنوات قليلة، وتحديداً في عام 2021، لخص الموسيقي والكاتب طارق عباس ما يعانيه أبناء هذا الفريق في مقالة عنوانها "دراما البلطجة ودورها في اغتيال الشارع". كتب: "الجدير بالملاحظة هو أن بعض الأعمال الدرامية، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تزداد هبوطاً وانحداراً بمرور الوقت، سواء على مستوى المضمون والفكرة، أم على مستوى الشخصية أو اللغة المستعملة في الحوار وطبيعة الدور الذي تؤديه الشخصية، أم على مستوى القضايا التي يتم اصطناعها وتلك التي يتم عرضها وإبرازها وكأنها الشغل الشاغل لنا، وأهم أولوياتنا، ومن أخطرها قضية (البلطجة) التي باتت ضيفاً ثقيلاً علينا يزورنا كل عام بالإكراه".
وقتها، تساءل عباس: "لا أدرى لمصلحة من يروج للبلطجة ويسوق لها ويتم الترويج للبلطجي على أنه الشخصية الأبرز والأكثر لفتاً للنظر؟ ما الرسالة التي يراد لها المرور إلينا عن طريق مشاهد العنف والصراخ والسب والشتم والرقص بالسنج والمطاوي؟".
دراما البلطجي
ما جرى منذ كتابة هذه السطور هو مزيد من التجذر لـ"دراما البلطجي"، ثم أضيف لها قدر وفير من إعلاء قيمة "السرسجي"، ومعها مكون غير قليل من الصراخ والصياح والجعجعة المستمرة من دون داع أو هدف، ليس فقط في الأعمال الدرامية عبر المسلسلات، لكن من خلال بعض البرامج الحوارية والمسابقات والمقالب التي أعيت من يتابعها.
بالطبع يظل هناك هامش من الأعمال الجيدة ذات المحتوى الهادف بالفعل إلى مناقشة قضية ما أو طرح فكرة ذات قيمة، أو حتى عمل كوميدي بغرض الإبهاج والإسعاد من دون شرط الإسفاف الفكري أو الانحطاط السلوكي أو العنف الفعلي أو النفسي.
على مدار ما يزيد على عقد، وأعداد متزايدة من المتابعين، سواء قطاع من المشاهدين العاديين أو نقاد وعلماء نفس واجتماع يلاحظون صعود نجم دراما البلطجي. في البداية، برر بعضهم أو علل الظاهرة المهيمنة على دراما رمضان في ضوء الانفلات الأمني في أعقاب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، لكن انتهت الأحداث وانتهى الانفلات، وبقيت دراما البلطجي. ليس هذا فقط، بل ظلت تتضخم وتتطور وتترسخ، لتصبح البلطجة فكرة، وليست مجرد دور أو قضية، بل منظومة كاملة متكاملة.
تجذر المنظومة
ومع تجذر المنظومة في رمضان، بدأ بعضهم يسأل متحسساً طريقه عن أسباب شيوع الفكرة الرمضانية الدرامية. ولوحظ أن البلطجي على مر السنوات في رمضان لم تتوقف عند شخصية مارقة خارجة على القانون، أو حتى تقتفي أثر "روبن هود" الخارج على القانون، لكن الفارس النبيل الشجاع، الذي يهرع لنجدة المظلوم وإنقاذ المقهور. كما لوحظ أن كثيراً من "دراما البلطجي" توقفت عن الجزء الخاص بالوعظ والإرشاد تحذيراً من الخروج على القانون وإلحاق الأذى بالناس، وأقلعت عن النهاية الأخلاقية التي ترسل رسالة مفادها: الجريمة لا تفيد، والخير لا بد أن ينتصر على الشر، والبقاء للأصلح. كثير من "دراما البلطجي" الرمضانية صارت إعلاء للبلطجي، وتمجيداً للبلطجة وتعاطفاً مع البلطجية.
قلة قليلة من المشاهدين، وكثيرون من المتخصصين والمهتمين بدأ صوتها يعلو وأسئلتها الاستفسارية والاستنكارية تتصاعد: ما السر وراء صعود نجم البلطجة في دراما رمضان؟ وما السبب في اعتناق فكرة البلطجة من قطاع عريض من صناع الدراما؟ وهل هي من الواقع إلى الدراما؟ أم إنها من الدراما إلى الواقع؟
مشاهدات مليونية
غالب الأسئلة تظل بلا إجابات، فقط مشاهدات مليونية ومتابعات تطرح مزيداً من الأسئلة من القلة القليلة غير الراضية عن توطين دراما البلطجة، وربطها بالشهر الفضيل، وكأنها فوازير رمضان أو حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن بالسنج والمطاوي وإعلاء دور العضلات على الأخلاق.
اللافت أن جيوش المحامين وكتائب المدافعين الذين يعتبرون دراما رمضان إطلالة سنوية لهم على الأثير عبر بلاغات مقدمة وقضايا مرفوعة يقصرون نشاطهم هذا، الذي أصبح فقرة رمضانية دائمة، على ملابس الفنانات باعتبارها هادمة للأخلاق ومدمرة للسلوكيات ومفتتة للمجتمعات. أما إعلاء مكانة الخارجين على القانون، وتمجيد قيمة أعمال البلطجة، وترسيخ ثقافة بسط العضلات والأسلحة البيضاء، فلا تقلق مضاجع المدافعين عن فضيلة المجتمع وأخلاقه وشيمه وقيمه.
بلاغات وقضايا
البلاغات القليلة والقضايا الضئيلة التي تقدم بها بعضهم أو رفعها في سنوات سابقة في شأن محتوى البلطجة لم تسفر عن شيء. فقط تغطيات صحافية وإعلامية، وتخصيص جزء من الأثير لمناقشة: هل أنت مع تضييق الخناق على الإبداع حتى لو كان يروج للبلطجة؟ أم تعارض التضييق وتدعم حرية الإبداع وعلى الجمهور اختيار ما يشاهد وما لا يشاهد؟
في رمضان عام 2021، شهدت ساحات القانون تقدم عدد من المحامين والمدافعين عن الفضيلة عبر حجب المحتوى ببلاغات ضد مسلسلات تعلي من قيمة البلطجة وترفع من مكانة الخارجين على القانون وتحرض المواطنين المشاهدين على عدم احترام القانون، وتجمل عالم الجريمة، وتزين قيمة العنف في المجتمع، وأبرزها "ملوك الجدعنة". أما مصيرها فتبخر في هواء قوة المشاهدة، بعد ما زاد من شعبية من تقدم بالبلاغ، لا سيما من المحامين.
طارق عباس في مقالته عن دراما البلطجة كان أشار إلى دورها في "حبس الجماهير في عالم اللاقيم واللاأخلاق والانحراف في سلوك الناس ومشاعرهم من منتهى الرحمة لمنتهى القسوة، من منتهى الالتزام إلى منتهى الانحلال، من منتهى الهدوء إلى الترغيب في الفتونة، واعتياد القبح، وتغليب لغة العنف على لغة الحوار"، مطالباً بـ"وقف هذه الحرب المعلنة على المجتمع لتخريبه، والمساس بالأسرة المصرية واغتيال المفاهيم الحقيقية للحرية، مع ضرورة استرجاع الدراما الهادفة والكوميديا الاجتماعية المبنية على العادات والتقاليد والقيم من أجل استعادة أجمل ما فينا".
أجمل ما فينا
"أجمل ما فينا" تظل هذه الآونة عبارة مطاطة، بعضهم يراها متجسدة في فوازير "ثلاثي أضواء المسرح" (الستينيات) ونيللي وشريهان (السبعينيات والثمانينيات)، وبرامج المسابقات التي تنمي الثقافة العامة والاطلاع والمعرفة، بينما بعضهم الآخر يرى "أجمل ما فينا" متجسداً في رموز وشخصيات باتت متلازمة رمضانية مثل الفنان محمد رمضان.
يمكن القول إن محمد رمضان يقسم المصريين إلى فريقين غير متساويين، الأول قاعدة عريضة من الشباب والأطفال والكبار أيضاً من سكان المناطق الشعبية والقرى، ومعهم فئة من شباب الطبقتين المتوسطة والعليا ممن يعتبرونه وأغنياته موضة Exotic تجتمع فيها الغرابة مع الدهشة مع جاذبية المزج بين ثقافة شعبية بألوان عصرية. والثاني فئة من المشاهدين تحمله وصناع أعماله جانباً معتبراً مما لحق بالمجتمع من تدن في طريقة التعامل وتدهور في السلوكيات وتفش لقيمة العنف السلوكي واللفظي وإعلاء للبطل الشعبي حامل السيف الملوح بالسنجة الذي يخفي الشفرة تحت لسانه، وإن استخدمه للكلام فلا ينطق إلا بالتهديد ولا يتحدث إلا بالألفاظ السوقية.
أيقونة وتوك وتوك
على مدار العقد الماضي، تحول رمضان إلى أيقونة لفئة عريضة من الشباب والمراهقين والأطفال. صوره على التكاتك، وقصة شعره تعتلي الرؤوس، وملابسه الغريبة تتصدر جانباً كبيراً من الـ"ستايل" الشعبي العام، لا سيما في رمضان.
ومع الخلطة السحرية التي تفتق عنها أذهان بعض من صانعي الدراما والبرامج، حيث مزج صورة البلطجي الإنسان ونموذج "السرسجي" الفنان في جانب من المحتوى التلفزيوني، خرجت الوجبة الترفيهية الرمضانية هذا العام زاعقة صاخبة مسببة كثيراً من الغضب والحزن من قليلين، والرضا والمتابعة من كثيرين. حتى المرتعدة أوصالهم والمرتبكة أعصابهم جراء فستان الفنانة وصورة المحجبة ومكانة المنقبة لم يرتعدوا بعد جراء الكم المذهل من الصياح والصراخ الذي يصل إلى حد الجعير، واللغة السوقية المعتمدة التي جعلت من كلمات "وسخة" و"فاجرة" و"بنت الكلب" وغيرها مفردات تخدم العمل الدرامي ولا تهز قيم الأسرة المصرية التي يهزها الفستان أو يهدمها النقاش حول النقاب.
وعلى رغم أن أياماً قليلة فقط مضت على المارثون التلفزيوني الرمضاني، إلا أن الظاهرة الملاحظة هذا العام هي مجاهرة عدد متزايد من الكتاب والمثقفين والشخصيات العامة بالغضب والضجر والحزن من "ثالوث البلطجة والجعجعة والسرسجة".
يشار إلى أن كلمة "سرسجة" بالعامية المصرية تعني الشاب الذي يتخذ أغاني المهرجانات مرجعية فنية، ومن أدوار البلطجي والمجرم والخارج على القانون أيقونة ثقافية، ومن الملابس العجيبة وقصات الشعر المريعة وطريقة المشي المريبة "ستايلاً" يحتذى، ومن المطواة والجنزير إكسسواراً يفتخر به، ومن الألعاب النارية الخطرة والشماريخ ترفيهاً ودعابة وغيرها من الصفات التي يجتهد كثيرون في جمعها ووصفها.
طبقية وعنصرية
الغالبية المطلقة من هؤلاء المجتهدين هم من غير "السرسجية"، ويطغى على التوصيف شبهة الطبقية والعنصرية، بحسب ما يعتقد بعضهم. وبغض النظر عن ذلك، فإن "السرسجة" طاغية في المحتوى التلفزيوني هذا العام، ليس فقط عبر شخصيات عديدة في المسلسلات، لكن أيضاً عبر برامج يفترض إنها مسابقات وأخرى حوارية.
وعلى رغم أن الحوارات الرمضانية ما زالت محبوسة في قضايا الفن والفنانين، وكرة القدم والكرويين، إلا أن لزوم رفع نسب المشاهدة، وضمان مكان في "شاهد قبل الحذف"، والسعي وراء الوصول إلى "ترندك اليوم" عبر وسم ساخن تستدعي معركة كلامية بين الضيف والمذيعة أو صياح الضيف غضباً من سؤال المذيعة، أو قدر من "الشرشحة" من الاثنين، والعبرة بمن شاهد.
صندوق أموال
حتى برامج المسابقات، التي كانت تعتمد في ما مضى من عقود على سؤال الحلقة المستفسر عن شخصية تاريخية، أو معلومة ثقافية، أو أعمال أدبية تحول بعض منها إلى "نمبر وان" يغزو المناطق الشعبية والمواصلات العامة بينما مساعدوه يحملون صناديق فيها رزم من الجنيهات يرميها في حجر رجل غلبان هنا، فيفقد وعيه، أو امرأة مطحونة هناك فتنهمك في الزغردة والبكاء، أو أسر بائسة هنا وهناك فيعلو الصراخ ويرتفع الصياح وتتجه الأكف نحو السماء داعية للفنان الإنسان وشاكرة ربها لعطف الزمان.
دراما البلطجة، وبرامج الجعجعة، ومحتوى السرسجة تحتل جزءاً من مائدة رمضان التلفزيونية. ربما هذا الجزء ليس كبيراً، لكنه زاعقاً ومؤثراً، ناهيك بأثر الـ"سوشيال ميديا" الذي يعمل من الحبة قبة، والقبة في العصر الرقمي ذات تأثير شعبي واسع وشاسع. وعلى رغم ذلك، ما زالت الساحة التلفزيونية الرمضانية تتسع لجانب غير قليل من الأعمال الدرامية الجيدة والبرامج الحوارية الهادفة، التي يعتبرها فريق الغاضبين من الصراخ الرمضاني ملجأ وملاذاً.
زمان ملجأ وملاذ
ويظل الملجأ الأكبر والملاذ الأوفر متمثلاً في "زمان"، الملاحظ هذا العام أيضاً هو احتماء أعداد متزايدة من المشاهدين بحائط صد زمان، وملاذ التاريخ الدافئ والآمن. هذا العام، تحظى قناة "ماسبيرو زمان" بنسب مشاهدة مرتفعة، وهي المشاهدة التي أصبحت تجذب قطاعاً من الشباب، إضافة إلى جيلي الآباء والأجداد، وذلك يحتاج إلى دراسة رمضانية اجتماعية نفسية متأنية.
"فوازير عمو فؤاد" (الثمانينيات والتسعينيات)، ومسلسل "ظاظا وجرجير"، وكاميرا الراحل إبراهيم نصر الخفية (التسعينيات)، و"حوار صريح جداً" (التسعينيات)، و"فوازير نيللي" (السبعينيات والثمانينيات)، قبل الإفطار، و"شريهان" (الثمانينيات) بعده، وابتهالات النقشبندي الذي رحل عن عالمنا قبل نحو نصف قرن تمد بعضهم بإكسير المشاهدة ولو من زمن فات وعصر انتهى.