حين لجأ الفنانون الفرنسيون إلى لندن هربا من بطش الألمان بالكومونة
1-تشرين الأول-2022
إبراهيم العريس
وكأنما التاريخ لا يريد أن يتوقف عن أن يعيد نفسه، فنحن نعرف من التاريخ المروي للحرب العالمية الثانية أن الجنرال الفرنسي شارل ديغول حين احتلت القوات النازية الهتلرية القسم الأكبر من أراضي بلاده وحكمت الماريشال الخائن بيتان بالبلاد والعباد باسمها، لم يجد – أي ديغول – من ملجأ يأوي إليه ويقود منه مقاومته الوطنية ضد الفاشيين التابعين للألمان كما ضد هتلر نفسه، سوى لندن التي أطلق منها نداء "الثامن من يوليو" الشهير وبدأ يوجه المقاومين. ويومها على خطاه ودائماً هرباً من الاحتلال الألماني راح المفكرون والمبدعون الفرنسيون يتدفقون على العاصمة البريطانية، لكن معظمهم لم يشأ أن يتوقف فيها بل أكملوا طريقهم في اتجاه العالم الجديد، إلى الولايات المتحدة، حيث راحوا ينتشرون ويعملون في نيويورك وكاليفورنيا وغيرهما مشكلين جاليات من مبدعين عرفت كيف تضخ دماً جديداً في الفنون الأميركية، وكانت الحال كذلك في السينما والمسرح والأدب والرسم.
قبل ثلاثة أرباع القرن
والحقيقة أن حراكاً مثل ذلك كان قد حصل قبل ذلك بثلاثة أرباع القرن هو الذي يجعلنا نتحدث عن "التاريخ الذي يعيد نفسه"، لكنه كان في تلك المرة حراكاً توقف عند لندن بالتحديد. ففي المرة الأولى هذه كانت وسائل السفر في رحلات طويلة أقل توافراً وكانت لندن أكثر ترحيباً وأميركا أقل اهتماماً بالفنون والإبداعات الفرنسية وأصحابها. وفي المقابل كانت هوية محتلي فرنسا في الحالتين هي نفسها: ألمانيا عبر القوات البروسية التي غزت أجزاء كثيرة من فرنسا ولا سيما باريس مجبرة شرفاء الفرنسيين وأهل الإبداع منهم على اللجوء إلى المنفى، وأيضاً بفنونهم وتجديداتهم الفنية التي ستلعب دوراً كبيراً في ضخ الحياة اللندنية بأنفاس جديدة، ولكن في جعل مثقفي الشعبين، اللدودين عادة، جراء العداوات السابقة التي قد يكون علينا تلمس نتائجها في رواية تشارلز ديكنز الكبيرة "قصة مدينتين"، يتناسون تلك العداوات التي تعود إلى عهد نابليون وقبله، ليتآخوا وتتلاقح فنونهم في مواجهة عدو مشترك. إذاً في بدايات سبعينيات القرن التاسع عشر كانت المناسبة نفسها لمنفى إبداعي يكاد يتخذ السمات نفسها، حتى وإن كانت لندن هي التي فتحت ذراعيها تلك المرة. وهي فتحت ذراعيها على أية حال لمن اعتبرتهم "مناضلين حلفاء" لم يتحركوا في اتجاهها إلا بفعل انهيار حلم كبير كانوا قد عاشوه خلال السنوات القليلة السابقة على سلوكهم درب المنفى: حلم الكومونة. وتحديداً كومونة باريس التي لعب فيها الفنانون والمبدعون الفرنسيون، بصورة عامة، دوراً في غاية الأهمية بل حتى سقط بعضهم ضحايا لها، كما حال الرسام فردريك بازيل الذي سقط مضرجاً بدمائه وهو يخوض القتال دفاعاً عن باريس وشعبها وعن الأفكار الثورية الكبرى. والحقيقة أن الوقت الذي قتل فيه بازيل كان لا يزال زمن آمال كبيرة بل حتى انتصارات كان "الكومونيون" لا يزالون يحققونها على القوى المحافظة، "قوى فرساي"، ولم يكن الألمان قد تدخلوا بقوتهم المفرطة بعد. كانت المعارك لا تزال فرنسية – فرنسية. وكانت الصراعات لا تزال تدور خفيفة شبه مرحة تتيح مثلاً حتى لإميل زولا أن يقيم عرساً يكون شاهد زواجه فيه رفيقه بول سيزان، ولإدوار مانيه أن يتزوج بدوره ويسعد الجميع، إذ يزورهم كوربيه في فترات استراحته من نشاطه النضالي ضمن إطار لجان الكومونة، ولكن يوم 13 مايو (أيار) من ذلك العام 1870 تبدل كل شيء: أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا الألمانية لتدخل هذه في شؤونها الداخلية. صحيح أن الحرب كانت لا تزال تبدو للفنانين بخاصة لعبة، ولكن حين قتل بازيل إثر تطوعه في القوات المقاتلة راحت الأمور ترتدي فجأة لباس الجدية. ولئن كان كوربيه قد أصر على مواصلة نضاله ضد "العدو الألماني"، فإن كثراً من رفاقه تراجعوا لاجئين بعضهم إلى محيط مارسيليا أسوة بسيزان، والبعض الآخر نحو الهافر. أما رينوار مثلاً فترك نفسه في مهب الحظ غير فار من الجندية فإذا بالحظ يختار له أن يعين خادماً للجياد في الإسطبلات العسكرية في تارب!
غير أن الأحداث راحت تتفاقم طوال النصف الأول من 1871 وأحاقت الهزيمة بالكومونة وتحقق النصر للبروسيين الألمان الذين راحوا والخائنون الفرنسيون الذين ساروا في ركابهم، يطاردون الفنانين الفرنسيين إثر اعتقال كوربيه، ويسومونهم العذاب أو يغرونهم في الأقل بالتعاون، ألم نقل إن التاريخ يعيد نفسه؟ وهكذا ودع كثر من فناني فرنسا البطولات وتخلوا عن التردد وراحوا يعبرون المانش وقد راح الواحد منهم يهمس في أذن الآخر بأن ثمة فرصاً تنتظرهم وآفاقاً فنية رحبة ستتاح لهم ويمكنهم في العاصمة الإنجليزية أولاً أن يعيشوا في أمان ثم أن يرسموا مجددين أساليبهم وألوانهم، وبعد ذلك أن يتعرفوا من كثب إلى ما يحدث من تجديدات فنية في تلك التي لم تعد تبدو لهم عاصمة للضباب! ولكن أكثر من ذلك، قال بعضهم لبعض "هناك في لندن بول دوران - رويل". وكان هذا قد انتقل بدفتر عناوينه ورساميله وما كان يملك من لوحات إلى لندن، حيث سرعان ما افتتح معرضاً ضخماً في "نيو بوند ستريت"، ولكن قبل أن نواصل هنا لا بد أن نشرح من هو دوران – رويل وما أهميته في الحكاية كلها؟
هو جامع لوحات ثري من الطبقة الأولى يرى كثر أن الفضل يعود إليه في النهضة التي عرفها الفن الانطباعي في فرنسا كما في غيرها عند أواسط القرن التاسع عشر، إذ كان من كبار المبادرين لشراء لوحات الفنانين الذين سرعان ما يصبحون أصدقاءه ويتولى الترويج لها وبيعها داخل فرنسا وخارجها. ولعل من يقرأ المذكرات التي كتبها السينمائي الفرنسي جان رينوار عن أبيه الرسام الكبير بيار أوغست رينوار، لن يفوته أن يستخلص من صفحات الكتاب بورتريهاً رائعاً لمحب الفنون ذاك والذي كان يمضي أوقاتاً طيبة في بيت رينوار في مونمارتر ويشكل ما يشبه الحماية للفنانين بحيث كان وجوده في أية حلقة يشعر المحيطين به بالأمان. كان رجلاً مثقفاً وحاذقاً يعرف تماماً قيمة الفن وقيمة المال. ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون قد انتقل إلى لندن ما إن أظلمت الدنيا في فرنسا. ولن يكون غريباً أن يشعر الفنانون الفرنسيون بوجوده أن لندن قد أضحت طوع أيديهم. وهكذا بات معرضه سفارتهم وبيتهم والمغناطيس الذي يجذب فنانين فرنسيين مترددين إلى لندن. وكان من الطبيعي أن تكون له اليد الطولى في جمع عدد كبير من الفنانين والنقاد الفرنسيين المقيمين في لندن منذ حين، أو الواصلين إليها لتلك المناسبة للمشاركة في المعرض الدولي الذي أسهم "متحف ساوث كنسنغتون" في إقامته خلال تلك الفترة بنكهة فرنسية واضحة اجتذبت الصحافة الإنجليزية حتى وإن كان الفرنسيون سيشتكون من أن "الجمهور الإنجليزي العريض لم يبد كبير اهتمام بفن يعرض عندهم آت من بلد يعيش من القلاقل، مما يدفع إلى التساؤل عن مسؤولية الفنانين في مثل ظروف هكذا تمر بها بلادهم". وكان من أبرز العارضين بيسارو، ولكن بخاصة كلود مونيه الذي لم يكتف بعرض لوحة تمثل زوجته كاميل ستحقق شهرة واسعة منذ ذلك الحين، بل راح يرسم مناظر طبيعية للندن نالت استحساناً كبيراً من الجمهور والنقاد الإنجليز ومن أجملها لوحته "التاميز والبرلمان".
مهما يكن من أمر، كان الانتصار الأكبر في ذلك كله لبول دوران – رويل الذي شكلت فترة المنفى اللندني بالنسبة إليه مناسبة لتعزيز روابط الفن الفرنسي مع الإنجليز. وأكدت له صواب رهانه المبكر على أبناء جيل سابق من شباب الفن الفرنسي عبر ترويجه للوحات كورو وكوربيه وميلييه والجمركجي روسو، مشترياً مجموعات كبيرة منها في وقت لم تكن بعد قد عرفت واستسيغت على نطاق واسع، قبل أن ينصرف إلى الاهتمام ببدايات الانطباعيين، جاراً في طريقه عدداً من كبار الجامعين العالميين من إنجليز وروس وسويسريين كانوا هم من مكن ذلك التيار من أن يعيش وينمو في تأكيد كم أن المال يمكنه أن يكون مفيداً ومربحاً حين يستخدم في مكانه الصحيح.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech