خورخي سمبرون بين الأدب والسينما: الذاكرة فعل مقاومة
22-آب-2023
هوفيك حبشيان
يحتفي عالما الأدب والسينما هذا العام بمئوية الكاتب والسيناريت الإسباني خورخي سمبرون (1923 - 2011). هذا المعارض ذاع صيته في ميادين الثقافة والسياسة والنضال، وكتب معظم ما كتبه باللغة الفرنسية، فهو رغم كونه من عائلة بورجوازية عريقة انخرطت في السياسة (كان والده ديبلوماسياً)، عاش معظم سنين حياته في فرنسا، منفاه الاختياري، وصنع شهرته الواسعة انطلاقاً منها، حتى تاريخ وفاته عن 87 عاماً.
شارعان يحملان اسمه في باريس وتولوز، وله نحو 23 كتاباً تنتمي إلى أصناف أدبية مختلفة. ظل مواظباً على التأليف إلى أن أصابه المرض، وهو يختزل في نتاجه وشخصه معظم صراعات القرن العشرين ونضالات الأوروبيين طمعاً بحياة أفضل.
كتب سمبرون روايات ومسرحيات وسيراً ذاتية (أحدها عن المغني والممثّل إيف مونتان)، لكن مساهمته كسيناريست في السينما الفرنسية طوال الستينيات والسبعينيات "تاريخية"، وحفرت مكاناً عميقاً لها في الوجدان، لكونه جاء إليها بلمسة مغايرة. من خلال تعاونه مع حفنة من أبرز السينمائيين، أنعش الفيلم السياسي الذي كان "خروفاً أسود" في فرنسا، خلافاً لأميركا. وضع حياته الشخصية في خدمة أدبه مستلهماً منها الكثير من التفاصيل الواقعية. ولكونه نجا من معتقلات النازيين، وانتسب إلى الشيوعية، وحارب الفاشيين وتبوأ منصباً وزارياً في مرحلة لاحقة، فهذا أعطى نصوصه صدقية مشبّعة بتجربته الحياتية التي انعكست إيجاباً على أدبه، مؤكداً من خلاله أن التجربة الشخصية، خصوصاً تلك المعيشة في أثناء المراحل الأولى من حياة الإنسان، من شأنها أن تتحوّل مخيالاً أدبياً إذا استطاع المؤلف الاستثمار فيها.
يصعب فصل سيرة سمبرون عن مؤلفاته ونصوصه السينمائية، من وفاة أمه وهو في التاسعة إلى النفي الذي عاشه خلال الحرب الأهلية الإسبانية وانضمامه إلى المقاومة الفرنسية، فقبض النازيين عليه وإرساله إلى معسكرات الاعتقال، ثم عودته إلى إسبانيا بعد سقوط نظام الجنرال فرانكو ليشغل منصب وزير الثقافة. نجد صدى لهذا كله في أعماله، وإن باسلوب غير مباشر. كما أنه اشتهر بعمل لعقدين من الزمن مع الشيوعيين الإسبان باسم مستعار (فريدريكو سانتشيز)، إلا أن الحزب الشيوعي الإسباني فصله بسبب عدم انسجام رؤيته مع أفكار الحزب العامة آنذاك. أما عمله السياسي كوزير ثقافة (1988 - 1991)، فجعل الحكومة الاشتراكية التابع لها، تضيق بأفكاره، مما اضطره إلى الاستقالة والعودة إلى فرنسا حيث واصل الكتابة.
ناضل سمبرون إيماناً بأفكاره وقناعاته، وعانى التشرد والاعتقال. طبع ذاكرة القرن العشرين بأعماله الأدبية الملتزمة التي كانت دائماً تسعى إلى إدانة مظالم الحروب وشرورها، من معتقلات التعذيب إلى الاغتيالات السياسية. مكث العديد من أعماله في حدود تجربته في معسكر الاعتقال النازي. منذ صغره، شهد على ما شكّل وعيه الإنساني والأدبي.
رغم تشرده، كانت فكرة الوطن حاضرة لدى سمبرون، وكذلك لدى أفراد أسرته التي لطالما ترسخت فيهم جذور الوطنية، حتى إنه يروي كيف أنه شاهد جدته وهي ترفع علم إسبانيا فوق شبّاك منزل العائلة قبل أن تقتحمه قوات الجنرال فرانكو.
بعد خروجه من الحزب الشيوعي، انكب سمبرون على الكتابة. في كتابه الأول، "الرحلة الكبرى" (1963)، روى سمبرون رحلة الخمسة أيام التي أُجبر على القيام بها، هو و119 معتقلاً آخرين، في قطار يحمل البضائع إلى معسكر اعتقال بوخنفالد النازي. لكن لا يقتصر الكتاب على هذا، بل يستعيد فيه الحرب الأهلية والمقاومة والتحرير. تفاصيل واصل سردها أيضاً في كتابيه اللاحقين "يا له من يوم أحد جميل" و"الكتابة أو الحياة". غافراس (ملف الفيلم)
بين سمبرون والسينما، الموضوع الذي يعنينا هنا، سيرة مشتركة وحكاية حبّ من الطرفين. أعطى الشاشة والشاشة بادلته هذا العطاء، إذ بلغ 13 مجموع السيناريوات التي كتبها للشاشة الكبيرة، بين 1966 و1997، فضلاً عن ثلاثة أعمال تلفزيونية. كيف ننسى، من جملة ما كتبه للسينما، الفيلمين اللذين ذاع صيت كوستا غافراس من خلالهما في آخر عامين من ستينات القرن الفائت، "Z" (زد) و"الاعتراف"، وكان سيتبعهما تعاون ثالث لهما مع "فوج خاص" (عن تأسيس حكومة فيشي لمحكمة تدين المقاومين)، عام 1975، لكن بنجاح أقل بكثير.
بين إيف مونتان وسمبرون، المتقاربين عمراً، علاقة صداقة قوية نشأت بسبب الهم المشترك، فكلاهما كانا من أعضاء الحزب الشيوعي، واجتمعا حول قضايا الديموقراطية والحرية التي كانا يتوقان لها، وكان من الطبيعي أن يلتقيا حول مشاريع سينمائية تدين العنف وتستنكر ممارسات الأنظمة التوتاليتارية. خمسة أفلام جمعت مونتان بصفته ممثّلاً، بسمبرون بصفته كاتباً، بين 1966 و1991: "الحرب انتهت" لآلان رينه و"Z" و"الاعتراف" لكوستا غافراس و"طرق الجنوب" لجوزف لوري و"عودة نيتشاييف" لجاك ديراي.
استوحى سمبرون عنوان "الحرب انتهت" (1966) من الملف الشهير الذي أعلن فرانكو من خلاله نهاية الحرب الأهلية الإسبانية عام 1939. إنه واحد من أكثر أفلام رينه لجوءاً إلى خط درامي. آنذاك، صعب إدخال الفيلم في مسابقة مهرجان "كان" تحت ضغط الحكومة الإسبانية في عهد فرانكو، ولكن شارك في كارلوفي فاري حيث عُرض خارج المسابقة، ونال إعجاب الجمهور. أما النقّاد الإسبان الذين كانوا في "كان"، فأسندوا اليه جائزة لويس بونويل التي ابتُكِرت خصيصاً له.
تجري أحداث “انتهت الحرب” في العام 1965، ويتمحور على شخصية دييغو مورا (مونتان)، ناشط في الحزب الشيوعي الإسباني، يعود إلى بلاده بعد سنوات من النفي في فرنسا، لمساعدة رفيق قد يتم توقيفه إذا ما قرر العودة إلى إسبانيا، بيد أنه يدرك أنه اختفى عن الوجود. يروي سمبرون أن رينه جاءه طالباً إليه أن يخبره في بضعة سطور ما يريد أن يحكيه، فاقترح عليه ستّ حكايات تجنب منها أربع. ثم، اختار قصة إسبانية عن دفن لاجئ في الضاحية الباريسية. بحسب سمبرون، كان رينه يريد فيلماً سياسياً، وهذا ما حصل في النهاية. في البدء، كانت فكرته إنجاز فيلم عن سيرة نقابيين يهتمون باللاجئين السياسيين، ويعملون على لملمة التواقيع، وينظمون التظاهرات دفاعاً عن السجناء السياسيين في أنغولا. ثم كان القرار بالتركيز على قضية إسبانية.
في "Z" (1969) فيلم كوستا غافراس الأشهر من أن يُعرَّف (فاز بـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي)، نتابع قضية اغتيال نائب تقدّمي، فيأتي قاضي التحقيق ليوجّه أصابع الاتهام إلى الشرطة والجيش. تجري أحداث الفيلم في بلد متوسطي (من دون الإشارة بشكل واضح أن هذا البلد هو اليونان). اقتبس سمبرون قصّة الفيلم من رواية للكاتب اليوناني فاسيليس فاسيليكوس الذي يروي فيه مقتل النائب غريغوريس لامبراكيس في تسالونيك في العام 1963. يؤدي جان لوي ترانتينيان دور قاضي التحقيق، فيما تولى إيف مونتان أداء شخصية النائب. أما Z، فهي الحرف الأول من كلمة يونانية تعني "لا يزال حيّاً"، العبارة التي كان يكتبها مستنكرو مقتل لامبراكيس على الجدران.
مع "الاعتراف" (1970)، اقتبس سمبرون رواية أرتور لندن، سياسي يهودي شيوعي من تشيكوسلوفاكيا، اشتهر بإدانته في محاكمة براغ في العام 1951. يروي الفيلم اتهام أحد أرفع المسؤولين داخل النظام الشيوعي التشيكوسلوفاكي بالتجسس لمصلحة الولايات المتحدة. تتبرأ منه زوجته (سيمونّ سينيوريه)، ويضطر إلى الاعتراف بما لم يرتكبه تحت التعذيب في خطاب يكتبه له جلادوه. في المحصّلة، يُطلب منه أن يعترف بأنه من أنصار تيتو وتروتسكي، وكلاهما من ألد أعداء ستالين.
يلعب إيف مونتان دور جيرار، الرجل المسلوب الإرادة. صحيح أن الفيلم مستوحى من سيرة لندن، لكنه يحمل في طياته الكثير من آراء سمبرون الذي، رغم كونه يسارياً مقتنعاً بخياره، فهذا لم يمنعه من معاداة ستالين، اذ لخّص موقفه هذا في مرحلة لاحقة من حياته بالقول: "غابة الرأسمالية أكثر أمناً من حديقة حيوانات النظام الشمولي". ومثل جيرار، بقي سمبرون وفياً لقيم الشيوعية التي تربى عليها في طفولته، من دون أن ينكر القمع والظلم اللذين أفرزتهما لاحقاً. بعد "Z" الذي تصدّى لليمين، قيل أن الثنائي سمبرون/غافراس خطط مع "الاعتراف" الهجوم على اليسار، لكن الحقيقة هي أنهما كانا يسعيان إلى إدانة كافة أشكال الأنظمة الشمولية. رغم الاتهامات الكثيرة التي انهالت عليه، حقق الفيلم إيرادات عالية، ونال الجوائز وفتح نقاشاً، حد تحوله إلى ظاهرة ثقافية وسياسية.
نذكر أيضاً من سجل سمبرون السينمائي، تقديمه نصّاً إلى المخرج إيف بواسيه سرعان ما تحول إلى أهم فيلم ينجزه: "الاغتيال" (1972). على موسيقى إنيو موريكوني يجتمع كل من جان لوي ترانتينيان وميشال بيكولي، ويدخلاننا في حبكة سياسية شائكة. الفيلم عن مُعارض سياسي من إحدى الدول العربية (لا يُذكر اسم البلد لكنه المغرب)، يضطر إلى اللجوء إلى سويسرا عندما تسعى أجهزة استخباراتية عدة إلى اغتياله بسبب شعبيته المتزايدة. إلا أن عملية الاغتيال لا يمكن أن تتم في سويسرا، بل في باريس حيث تعمل الأجهزة تلك، على استدراجه. الفيلم مستوحى من عملية اغتيال المعارض المغربي مهدي بن بركة في العام 1965. هذا نصّ آخر عن الاضطهاد والقمع وتقييد الحريات، حملت لمسة سمبرون، وتسبب لبواسيه بمتاعب كثيرة خلال التصوير، من فقدان للبكرات التي كانت تحتوي على مشاهد التعذيب، خصوصاً أنه تعرض للإرث السياسي لشارل ديغول. التعاون الثاني بين سمبرون وبواسيه كان في فيلم تلفزيوني عن قضية درايفوس الشهيرة.
بعد ثلاثة أفلام مع غافراس، تجدد تعاون سمبرون مع رينه، فكان "ستافيسكي" (1974)، واحداً من أفضل أفلام صاحب "هيروشيما حبّي". هذه المرة مع بلموندو في دور البطولة بدلاً من مونتان. يتطرق نصّ سمبرون إلى شخصية المغامر ستافيسكي، متعمّقاً في أبعادها النفسية، ولا يتوانى عن فتح خط مواز بينها وبين اقامة تروتسكي في المرحلة ذاتها في فرنسا، قبل أن يتعرض للطرد.
لم يتوانَ سمبرون عن التعاون مع إحدى ضحايا "لائحة العشرة" المستبعدين من هوليوود في عهد ماكارثي، أي جوزف لوزي، والفيلم حمل عنوان "طرق الجنوب"، متمحوراً على ذكريات المهزومين في الحرب الأهلية الإسبانية. فيلم متواضع لمخرج "حادث". واللافت في تجربه سمبرون أنه على رغم انخراطه في السينما، كان عليه أن ينتظر حلول العام 1991 كي يرى أفلمة رواية له، وهي "عودة نيتشاييف"، على يد دان فرانك (كتابةً) وجاك ديراي (كتابةً وإخراجاً)، ليلتقي مجدداً بإيف مونتان في ظهوره ما قبل الأخير على الشاشة. الفيلم يبدأ من ثورة 68 حيث خمسة رفاق يؤسسون خلية ثورية، لكن سرعان ما تدخل الخيانة في صفوفهم. أما تجربته الإخراجية الوحيدة، فتعود إلى العام 1974، وحملت عنوان "الذاكرتان".
من أقوال سمبرون: "كلّما تذكرتُ، ازدادت تجربة الماضي ثراءً وتنوعاً، وكأن الذاكرة لا تنفذ أبداً".
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech