ايمان فارس سلمان
في كل صباح تأخذه خطواته إلى أزقة البصرة القديمة، حيث تمتزج رائحة الماضي بعنفوان الحاضر، وحيث تُروى الحكايات في صمت الشوارع وهدير الأسواق، هناك، قرب ما كان يُعرف في ثمانينيات القرن الماضي بـ (صيدلية جبار)، عادت الذاكرة بالفنان التشكيلي الدكتور (علي شريف) إلى زمنٍ كانت فيه هذه الأرض شاهدة على قصص الكفاح والبطولة، وحاضنةً لأناسٍ لم ينحنوا لرياح الظلم، بل كانوا أعمدةً شامخة من الإيمان والصبر،بين الأسواق، الباعة البصريين البسطاء في محالهم و”بسطياتهم”، وجوههم تشع جِدّاً وحيوية، وأيديهم تبني أرزاقهم من عرق جبينهم، هم ليسوا مجرد بائعين، بل رواة لتاريخ مدينتهم، يحملون في عيونهم ذلك البريق الذي يخبرك بأنهم لا يسعون فقط إلى الكسب، بل إلى مرضاة الله تعالى،وعندما يدنو وقت الصلاة، ينفضون عن أيديهم تعب البيع والشراء، وينطلقون إلى الجوامع القريبة، حيث تُقام الصلوات، وتُرتفع التسبيحات. هناك، في أجواء إيمانية خالصة، تجدهم يلهجون بذكر الله، ويُسبّحون ويتوجهون بالدعاء ليحفظهم الله ويوفقهم، ويبسط لهم سُبل العيش الكريم. في رحلةألتجوال بين الناس، يشعر المرءوكأنهيقف أمام سجلٍ حي لتاريخٍ ممتد من التحدي والبطولة. كيف لا، وهؤلاء البصريون الأصلاء هم من وقفوا في وجه ظلم الطاغية ، وقدّموا الأرواح على مذبح الحرية والكرامة. بين وجوههم ملامح أولئك الذين أُعدموا ظلمًا، وسُجنوا، وقاسوا صنوف التعذيب، ولكنهم لم يتراجعوا ، أسير بين تلك الأزقة، لا أرى فقط محالاً وبسطات، بل أرى تاريخًا يمشي بيننا، يسير بخطوات بسيطة، لكنه يحمل إرثًا عظيمًا وشعبا عظيما ، مدينة هي تاريخ ، ولكنه ليس مجرد صفحات مطوية. إنه ينبض في كل وجه، في كل متجر، وفي كل زقاق، منها يستلهم أعماله، من الحياة اليومية المحيطة به، حيث في كل مشهد قصة تستحق التوثيق عبر الفن، رغبت (الشريفي) في تصوير مشهد يعبر عن جزء من هوية مدينته الزبير، التي تشتهر بسوقها الخاص لبيع الأغنام، والمعروف باسم (الصفاه) ، هناك، وجد مشهدًا لافتًا لرجل يعمل كتاجر أغنام، يجلس على الأرض بانشغال شديد، يصلح عباءته بيديه، دون اكتراث لحال جلوسه على أديم الأرض، خلفه، امتدت تفاصيل السوق: باعة الأغنام، المشترون، وحتى الأغنام نفسها التي شكلت جزءًا من المشهد. تجربة التفاعل مع المشهد في لوحة : تاجر الغنم كان المشهد زاخرًا بالحياة والروح الواقعية، لكن الرجل رفض مرارًا أن ألتقط تفاصيله عبر لوحتي. حاولت التراجع وأخذت بضع خطوات إلى الوراء، ثم عدت وحاولت مرة أخرى، حتى أذعن الرجل أخيرًا، وعاد إلى خياطة عباءته كما لو أنه نسي وجودي، في تلك اللحظة، بدأت العمل على نقل تلك الصورة الحية إلى اللوحة، محاولًا التقاط التباين بين تركيزه العميق في إصلاح عباءته وحركة الحياة من حوله، الجانب الجمالي من الناحية الجمالية، ركزفي اللوحة على استخدام الألوان الدافئة التي تعبر عن أجواء السوق الترابية، مع إبراز الظلال والإضاءة الطبيعية التي تحاكي شمس الزبير الحارقة، حرص على تضمين التفاصيل الدقيقة في حركة اليد أثناء خياطة العباءة، وكذلك الخلفية التي تعكس حيوية السوق، جاءت العناصر جميعها متناغمة، تعكس الانشغال البسيط بحياة يومية مليئة بالحكايات،تحمل اللوحة بعدًا نقديًا يعكس العلاقة بين الفرد وبيئته، والتفاعل العفوي بين الإنسان والمكان، إنها ليست مجرد توثيق بصري، بل محاولة لإبراز قيمة الإنسان في بساطته، وتفاصيل حياته اليومية التي تحمل عبق الهوية المحلية. كما أن اختيار الأسلوب الانطباعي يعزز الشعور بالحيوية والانغماس في المشهد، بعيدًا عن المثالية أو التجريد،هذه اللوحة تمثل ليس فقط انعكاسًا لحياة قضاء الزبير، بل أيضًا رسالة حب واعتزاز بالمدينة، حيث سعى إلى نقل جمال البساطة وقوة التفاصيل في حياة الناس العاديين إلى فضاء الفن التشكيلي