سيد محمود
تكشف رواية "ولد و4 بنات" عن وجه جديد لمؤلفها الشاعر المصري الراحل مجدي نجيب الذي توفي العام الماضي عن 88 سنة قبل أن ينشر روايته الوحيدة التي وجدتها العائلة بين أوراقه عقب الوفاة ويلفت النظر فيها الفكرة الخلاقة التي تربط سيرة الحب لدى البطل بتطور الأغنية.
وفي المقابل اكتسبت الأغنيات التي كتبها شهرة كبيرة، وحققت نجاحاً هائلاً بين أصوات تنتمي لأجيال مختلفة من المطربين، فقد كتب أغنيات منها "كامل الأوصاف" لعبد الحليم حافظ و"قولوا لعين الشمس" و"غاب القمر" لشادية و"العيون الكواحل" لفايزة أحمد و"دور" لشريفة فاضل و"أوعدك" لسعاد محمد و"سيبوني أحب" لهاني شاكر و"شبابيك" لمحمد منير الذي غنى وحده أكثر من 30 أغنية عبر 40 عاماً منها "عصفور" و"ليلى يا ليلى" و"بريء"، كما غنى له الليبي أحمد فكرون أغنيات منها "الإسكندرية" و"انتظار".
تستعرض الرواية أوضاع أحياء القاهرة خلال الربع الثاني من القرن الـ20 من خلال تأمل هواجس بطلها غريب الأطوار الذي يغرم منذ طفولته بالملك فاروق (1920 -1965) الذي حكم مصر بعد وفاة والده فؤاد الأول عام 1936 محاطاً بآمال كبيرة تراهن على نجاحه في تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي.
وقد عاش البطل مؤمناً بقدرات ملكه واحتفظ في جيب بنطاله بعملة معدنية تحمل صورة مجسمة للملك بتقنية النحت البارز تعبيراً عن الافتتان، كما قضى حياته أسير حلم رافقه منذ الطفولة، وهو دخول القصر الملكي في عابدين للتجول داخل الحجرات السرية، زاعماً أن الملك يمارس طقوسه التي صممتها المخيلة الشعبية من داخل تلك الحجرات.
وتستبد بالبطل خلال مراهقته رغبات كثيرة تقوده للشغف بالنساء داخل الحي الشعبي الذي يسكنه، إذ يتمكن أولاً من التعرف على ليلى زوجة أحد جيرانه بعدما راقبها من شباك غرفته، ولأنها كانت تدرك ذلك، فقد تعمدت إثارة غرائزه كأي امرأة شبقة.
تقوم ليلى كلما غادر زوجها المنزل بتشغيل الراديو وتبدأ رفع صوته في الأغنيات التي تركز على معاني الحب واللذة، لذلك تؤدي الأغنيات دور الشفرة السرية وتصبح وسيلة التواصل بين العاشقين إلى أن يحين اللقاء على فراش ليلى التي تطفئ رغبتها وتتركه من دون أن يتمكن منها، لذلك يسمى البطل جهاز الراديو بـ"الصندوق السحري" فمن خلاله تأتي إشارات الحب وقد ظل مستسلماً لتلك الإشارات إلى أن قاومها بشراء (الغرامافون) الذي أتاح له سماع ما شاء وقتما يشاء.
داخل نسيج هذه الحكاية وغيرها يصبح الصندوق السحري بطلاً فاعلاً في النص الذي يؤرخ فيه مجدي نجيب للأغنية بحرفية لافتة عبر وضع فقرات من نصوصها داخل نسيج حكائي متماسك.
ومثلما تعرف البطل على جسد ليلى فإنه يتابع حضور سيدة أخرى من جيرانه تدعى فهيمة لا تختلف كثيراً عن ليلى وينجح في جذبها إلى عالمه، كما يلتفت إلى فتاة صغيرة فقيرة تسكن بدروم البناية التي يسكنها تسمى فاطمة يقودها إلى ممارسة الحب في غياب أفراد عائلتها.
يظل البطل في مغامراته الجسدية إلى أن يلتقي شهد شقيقة صديقه الوحيد إسماعيل ابنة الطبقة الأرستقراطية المتطلعة بفضل تعليمها إلى الأمل في تحقيق استقلال مصر، ولذلك تحاول تجنيده معها في ذات التنظيم السري، لكنها تنجح فقط في جذبه إلى عالم القراءة وتقدم له مجموعة من الكتب أولها كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي يفتح أمامه آفاق المعرفة.
وبفضل شهد تصبح الدنيا مدهشة من خلال القراءة، فهي تمثل الدنيا الجديدة التي انتظرها، لكن دون أن يفقد إيمانه بالملك الذي يقوم الضباط الأحرار بإسقاطه في نهاية الرواية.
مسارات متوازية
يعثر القارئ في الرواية على ثلاثة مسارات متوازية، الأول: يخص تطور نصوص الأغنيات في مصر التي يبثها الصندوق السحري المكون الأول لوجدان البطل الذي يستسلم تماماً لصوت أم كلثوم فيتنامى حضوره داخل النص.
أما المسار الثاني فيرصد تطور مفهوم الحب لدى البطل، فقد اقترن الحب مع ليلى وفهيمة باللذة الجسدية، في حين ارتبط مع فاطمة بتصور رومانسي عن العالم أساسه تعلقها الخالص به كتجربة أولى، أما علاقته مع شهد فهي علاقة ناضجة ترتقي بفعل الحب ذاته وتربطه بمفاهيم فلسفية مجردة تتعلق بالمعرفة والاكتشاف ويصعب الفصل فيها بين العقل والجسد.
ويرصد المسار الثالث تطور وعي البطل بالقضايا الوطنية بعدما حررته النقاشات مع شهد وصلاح من الاستسلام لعبودية الجسد، وهو الذي سيطر عليه منذ البداية الإدراك الحسي للعالم، فقد تشكلت صورة الملك من خلال العملة المعدنية التي كان يرتاح لتلمس النحت البارز لوجه الملك فيها.
والناظر في الرواية لا تفوته أبداً هيمنة لغة الشاعر وطريقته في تشكيل الصورة داخل النسيج السردي، إذ يهيمن على النص كثير من المجازات الشعرية وثيقة الصلة بطبيعة السياق التاريخي.
وتتجلى في الرواية معرفة المؤلف العميقة بالعادات والمعتقدات الشعبية التي يؤطر بها كثير من الممارسات التي تبرر للبطل مغامراته وتعزز حلمه باقتحام القصر استناداً إلى أساطير صنعتها المخيلة الشعبية. كما تكشف سرديات بطلات الرواية عن درجة الوعي السائدة لدى بعض النساء عند بدايات القرن الـ20، وهي درجة محدودة للغاية لدرجة أن البطلة الأكثر وعياً من بين جميع نساء الرواية تستجيب لدعوة المشاركة في طقس الزار بأمل تعافي البطل من الحمى.
وبحكم خلفيته كرسام مولع بالشعبيات فإن قاموس الألوان يحكم خياراته في النص، فالسارد يصف ليلى بعدما زهد فيها البطل بـ"الألوان الباهتة"، بينما يرى في شهد فراشة ملونة أو امرأة ذات ألوان طبيعية.
ومما يعزز شعور القارئ بحضور أدوات الرسام كون البطل استمد تصوره عن العالم من الصور السوريالية التي غمرت أحلامه وصبغتها بتصورات فانتازية ليست بعيدة أيضاً من اللوحات التي عرضها المؤلف في معارضه الأخيرة.
يواجه القارئ في مقابل ما لمسه من غواية داخل الرواية بعض مشكلات التحرير ربما لأن الرواية صدرت بعد موت مؤلفها، بالتالي لم تخضع للتحرير الأدبي، ويبدو أن ناشرها فضل ذلك احتراماً للتجربة الطويلة لمؤلفها الذي يبدو لي أنه أفرط كثيراً في استعمال "كان" كما أغوته جرعة الأغنيات داخل الرواية على نحو أثر كثيراً في تدفقها السردي الحر وأثقلها ببعض الفجوات.