عدنان حسين أحمد
يندرج فيلم "العربة والحصان" للمخرج محمد منير فنري ضمن باب الأفلام الكوميدية الهادفة التي تتجاوز المتعة المؤقتة وتسعى لتحقيق الفائدة للمتلقّين الذين يشاهدون هذا الفيلم الدرامي الذي يعالج موضوعات ومحاورَ اجتماعية كثيرة من بينها الحُب، وزواج الأقارب، والجريمة، وتعريف الفنان، ودوره في المجتمع، كما يسلّط الضوء على الحياة الاجتماعية المتفتحة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.
ينطوي الفيلم الذي كتب قصته المخرج محمد منير فنري وأعدّ السيناريو والحوار ثامر مهدي على قصتيّ حُب رومانسيتين وإن تخللت الأولى محاولة قتل بشعة، وتضمّنت الثانية اعتراض الأخ على زواج أخته من فنان سينمائي مؤمن بدوره الفني والثقافي في المجتمع الأمر الذي يفضي بالقصتين معًا إلى التصاعد الدرامي وكاد أن يؤدي إلى موت البطل الأول وانعزال البطل الثاني وسقوطه في خانق اليأس والقنوط.
تتعدد الثيمات الثانوية في هذا الفيلم مثل صراع الثقافات والقيم الاجتماعية بين المثقفين والناس البسطاء وثمة محاولات لردم الهوّة أو تجسيرها في الأقل كما حصل في المشهد الرومانسي بين الخطيبين "أبو العز" (جاسم شرف) و "هناء" (إقبال نعيم) من جهة وبين الحوذي "علوان" (راسم الجميلي) من جهة أخرى.
لا يتأخر المؤلف والمخرج كثيرًا قبل أن يزجّنا في صلب الحدث الأول "النهوة" أو اعتراض ابن العم (عزالدين طابو) على زواج ابنة عمه "هناء" من "أبو العز" ويهدده بالقتل إن هو أقدمَ على الزواج منها وينفّذ هذا التهديد بإطلاق عدد من الرصاصات على غريمه ويطرحه أرضًا وسط عويل هناء وتوسلاتها بالكف عن الرمي. يلعب الفنان الراحل حمودي الحارثي دور "أبو علي" كمساعد للمخرج (سليم البصري). " وعلى الرغم من أهمية أدوار الممثلين والممثلات كلهم إلّا أنّ دوريّ البصري والحارثي يُعدّان من الأدوار الرئيسة التي تكشف عن براعة الأول وفرادة الثاني وهما يُشكِّلان ثنائيًا مهمًا حققا نجاحًا منقطع النظير في المسلسل ذائع الصيت "تحت موس الحلّاق"، وها هما الآن يتألقان في هذا الفيلم الكوميدي الذي لم يغادر ذاكرة المتلقّين العراقيين رغم مرور 35 سنة على إنتاجه وظهوره إلى حيّز الوجود.
يستدعي مساعد المخرج عددًا من طلبة كلية الفنون الجميلة لكي يفيدوا من تجربة المخرج في هذا الفيلم الذي يتوفر على "أكشن" وحركة كاميرا، وشخصيات مرسومة بعناية فائقة الأمر الذي يوفر لهم خبرة تنضاف إلى خزينهم الفني والمعرفي في آنٍ معًا. يتكرر مشهد إطلاق الرصاص أكثر من مرة ويعبِّر "أبو العز" عن رفضه لرصاص الحقد والكراهية والموت ويعلن عن انتصار الحُب الكبير.
المنحى الميتاسردي
ما يميّز هذا الفيلم الروائي الطويل الذي تبلغ مدته 92 دقيقة هو توفّره على المنحى الميتاسردي الذي يوظّف الحوار الصحفي والأغنية والعمل المسرحي وقد أفاد منها المخرج جميعًا في البِنيتين السردية والبصرية لما أشاعته من مناخات سردية مختلفة ولكنها ليست دخيلة على البنية البصرية للفيلم السينمائي. ومن خلال الحوارات الصحفية نفهم الدور المُسند إلى البطلة وهو يتمحور على قصة فتاة أحبّت شابًا واتفقا على الزواج لكنّ ابن عمّها يعترض على هذه الزيجة ويرى أنه أحقُّ بها من هذا الشاب الطارئ على العائلة ويهدده بالقتل والانتقام لكنّ الفيلم ينتهي نهاية سعيدة.
يعتمد هذا الفيلم على بنية التوازي، فمقابل قصة حُب "أبو العز وهناء" يبني المؤلف قصة حُب أخرى تدور بين جلال (جلال كامل) و أمل (عواطف ابراهيم) التي تبدو أكثر عمقًا من سابقتها، فكلاهما فنان ومثقف عضوي ويحبان السينما والمسرح والتلفزيون وقد أصبحت هذه الفنون البصرية على وجه التحديد جزءًا من حياتهما اليومية الحميمة ولا يستطيعان العيش من دونها. وقد رأينا "أمل" تجسّد بعض أدوارها المسرحية وتنال رضا الجمهور وإعجابه. وقد استثمرت البطلة البُعد الميتاسردي أيضًا. أمّا جلال الذي كان شابًا طائشًا ومتهورًا استغل شهرته وحالته المادية الميسورة للعبث مع الفتيات وخاصة الجامعيات منهن اللواتي جئن إلى موقع التصوير ليزددنَ خبرة وتجربة ومعرفة بالتطبيقات العملية لنظريات الفن السابع ولكنه سرعان ما يعتذر عن تصرفه الأهوج ويبرّره بتأخره عن موقع التصوير فيقبلنَ اعتذاره.
يتناول الفيلم ثيمة الفن والفنان وكيفية النظر إليهما من قبل شرائح كثيرة في المجتمع العراقي ولهذا نرى "فهمي" (جواد الشكرجي) يسخر من شقيقته أمل ويلقّبها مجازًا بـ "سيدة الشاشة"وهو يعني العكس، ويستفسر عن سبب تأخرها في العودة إلى البيت ويعتقد أنّ أمه قد أرخت لها الحبل على الغارب وتساهلت معها كثيرًا، بينما وافق "فهمي" على دخولها في كلية الفنون الجميلة لكي تتخرج وتكون معلمة رسم لا أن تُصبح ممثلة وتندمج ببعض أدوارها إلى الدرجة التي تنسى نفسها ومكانة عائلتها الاجتماعية، بينما تؤكد "أمل" أنها طالبة طموحة جدًا وتتمنى أن تتفوق وتحقق أحلامها التي تدور في مخيلتها. لا ينسى "فهمي" أن يُذكّر أمه بأنّ ابن عمه "صبحي" (سامي قفطان) يريد أن يُنهي موضوع الخُطبة المُفضية إلى الزواج بأسرع وقت ممكن، وأنه سيدخل معه شريكًا في أعماله التجارية لكن الأم تطمئنهُ بأنّ "أمل" عاقلة و "خاتونة" ولا تنخدع بسهولة. ومع ذلك فإن "فهمي" يحذّر أمه بمثل شعبي يقول:"إنّ الذي يعاشر الحدّاد يحترق ثوبه".
يتعمّق المنحى الميتاسردي في اللقاء الصحفي مع "أمل" التي تُبدي رأيها في المسرحية وتقول بأنها عمل جيد وأنها ليست أول بطولة لها وقد سبق لها أن جسّدت أدوارًا كثيرة في السينما والمسرح والتلفزيون، وأنّ هذا الدور بمستوى طموحها لكنها تتطلع لتقديم الأفضل مستقبلًا. كما تحب اللون الأبيض لأنه يدلّ على النقاء وتعتقد أن الشكل أو الجمال الخارجي هو من مكمّلات الشخصية وضروري في المسرح كما هو الحال في السينما والتلفزيون.
مَشهد غرامي وحوذي متزمت
وإذا كان ابن العم قد اعترض على زواج ابنة عمه "هناء" من شخص غريب فإن الحوذي "العم علوان" سيعترض على الطريقة التي يتحدث بها العاشقان في عربته خاصة وأن مساعد المخرج قد طلب منه أن يمشي بخطوات موسيقية هادئة لأنّ المشهد الذي يصوِّرونه مشهدًا غراميًا وينطوي على قدر كبير من الرومانسية والدراما. ومن بين الأشياء التي يبوح بها (أبو العز) "أنّ أحشاءه تحترق كلما اقترب منها، وأنه يتقد مثل النار وكأنّ بابًا من جهنم قد انفتحت عليه" فتخبره بأنّ أمها وشقيقها قد عارضا الموضوع وأنه خرج من يدها تمامًا. فتثور ثائرة العم علوان ويطلب منهما النزول من عربته لأنه صاحب عائلة، ولديه بنات ولا يقبل أن تحدث هذه الأشياء المشينة في عربته التي هي مصدر رزقه وحينما يخبره المخرج بأنّ هذا فليم سينمائي، وليس حقيقة، وأنهم يصوّرونه حتى تتفرج الناس عليه فيتضاعف غضبه مُعتقدًا أنّ تصوير هذا الفيلم سيحرقه بنار جهنم، ويحمّله ذنوب أناس لا يعرفهم.
لم ينفع السائق البديل الذي ساط الحصان وسبّب في هياجه حيث ترك العريسُ العربةَ بينما انخلع قلب العروسة من الهلع الذي أصابها. الأمر الذي دفع المخرج لتهديد مساعده إن لم يجلب حوذيًا جيدًا وحصانًا مُروّضًا فسوف يكون حسابه عسيرًا. فينجح تصوير المشهد في المرة الثالثة ويلقون باللائمة على ابن العم الذي أصاب العريس بعدة إطلاقات لكنها لم تُصب منه مقتلًا.
أمّا القصة العاطفية الموازية فهي بين جلال وأمل، وكلاهما فنان ويتطلع إلى حياة اجتماعية وزوجية يريدها هو بعيدًا عن آراء العائلة وقناعاتها كما حصل لأمل على وجه التحديد. لم يبالغ المؤلف كثيرًا في بناء شخصية "أمل" وحجته في ذلك أنها ما تزال مبتدئة في أول الطريق الفني الطويل وكانت تعتقد أن تصوير الفيلم يتم بدُفعة واحدة من العنوان حتى النهاية لكنها اكتشفت أنّ إنجاز الفيلم عملية شاقة ومتعِبة وتحتاج إلى تأمل وصبر طويلين. وقد نجح جلال في توصيف إخراج الفيلم مثل الطفل الصغير الذي ينمو ويكبر أمامك يومًا بعد يوم وأنه يتجمّع قطعةً قطعة مثل لوحة الفسيفساء أو بشكل أدق مثل الحياكة التي تشتبك خيوطها بدقة عالية وبلمسات فنية حتى لا يتشوّه النسيج المحبوك. قد يشكو عالم الفن من بعض النواقص وليس بالضرورة أن يتطابق مع الواقع الجميل، فالسنين الطويلة التي أمضاها في هذا الوسط الفني علّمته حكمة تقول:"إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون" شرط أن يؤمن الفنان بفن التمثيل ويقدم فيه عُصارة جهده الفني والفكري من أجل الوصول إلى التجليات أو ملامستها في الأقل. يمتلك جلال آراءً مهمة في المسرح وهو يعتقد أنّ التجارب المسرحية ممكن أن تكون خصبة إذا ما تجذّرت في أذهان الناس وأصبحت ضرورة يبحث عنها المواطن لقضاء وقت ممتع ومفيد. وهو ما يتطابق مع رأي المخرج المسرحي العضوي الذي يسعى لأن يهدّم القناعات السائدة التي تقول بأنّ الدراما في السينما والمسرح والتلفزيون هي مجرد "سالوفة" تضحّك الناس ودعا إلى هدم القناعات القديمة وتقويضها واستبدالها بقناعات جديدة أكثر نضجًا وفنية. بينما لا يمتلك صبحي (سامي قفطان) التاجر أي رأي في هذا الموضوع الذي يعتبره شائكًا وطلب منهم ألّا يزّجوه في هذا النقاش الذي يقع خارج اختصاصه وهو التجارة التي يعرفها جيدًا كما يعرف راحة يده.
يتفاقم الصراع بين "أمل" وعائلتها، فهي لا تبحث عن زوج ثري لا يفهم إلّا في التجارة ولا يفكّر بغير النقود بينما تكرّس أمل حياتها للثقافة والفن، وعلى الرغم من احترامها العالي وتقديرها الكبير إلى ابن عمها صبحي الذي تنظر إليه كأخ عزيز إلّا أنها تجد ضالتها المنشودة عند جلال الفنان والإنسان الواعي والمثقف الذي ترك مشاكساته القديمة وانقطع إليها لكن شقيقها رفضه وطلب منه أن يجد نصيبه في مكان آخر لأنه أخطأ في العنوان.
نبعٌ متفجِّر لا يمكن كبحهُ
لا تجد أمل من تبثّ له بأسرارها ومشاعرها التي لم تعد دفينة سوى صديقتها منى (سهير إياد) فهي تبوح لها بكل شيء وتشعر بأنّ عالمها قد تشوّش وارتبك تمامًا مع "صبحي" بينما انتظم وترتّب مع "جلال" فالمسرح مُهيأ، والأدوار جاهزة، وحُب التمثيل يسري في دمه. ولكي تُخرجها "منى" من هذه الدوّامة نصحتها بأن تُصارح ابن عمها لأنه الشخص المعني بالموضوع ويجب أن يفهمهُ منها مباشرة. فتقرّر "أمل" مواجهة ابن عمها وتخبره بأنها تحترمه جدًا لكن الاحترام وحده لا يكفي لبناء حياة زوجية سعيدة ومتينة، وأنها ليست مخلوقة لكي تظل حبيسة المنزل، فثمة شيء نبعَ في داخلها وتبرعم ولا يمكن كبحهُ بعد الآن وإذا ما ظلّ مكبوتًا في أعماقها فإنه سوف يُسمِّمها بكل تأكيد. لقد نذرت نفسها إلى الفن وهي تريد من الإنسان الذي يرتبط بها أن يفهم هذه الحقيقة لا أن ينصرف إلى العمل التجاري فقط ويتعامل معها بقلب بارد ومشاعر بلاستيكية جامدة. لا شك في أنّ هذا الكلام قد أثّر على "صبحي" وجرح مشاعره، وحطّم في داخله أشياء كثيرة وأنّ توصيفه "بالأخ العزيز" هي عبارة أكثر إيلامًا من الرفض الجارح نفسه ولكنه أخبرها بأنّ السوق علّمه أشياءَ كثيرة أهمها أن يرى الأمور مثلما هي وليس مثلما يجب أن نراها ويُنهي كلامه المُعبِّر بمثل شعبي عراقي مفاده: "إذا فاتك الزاد قول هَني" . وهذا يعني أنه تخلى عن فكرة الارتباط بها وتركها إلى "جلال" الذي يحبها وتحبه. أمّا قصة "أبو العز" و "هناء" فتنتهي نهاية سعيدة حيث يوضع ابن العم في السجن لأنه أطلق النار على غريمه وقد تم حبسه بتهمة الشروع بالقتل فليس من حقه أن يعترض طريق سعادتها خاصة وهو يعيش في نهاية القرن العشرين وثمة قوانين تكفل هذا حق الاختيار للمرأة.
يشكو مدير الإنتاج من ضعف ميزانيته التي لم تعد تتحمّل مصروفات الفيلم الكثيرة وطلب من مساعد المخرج التقشف في الجانب المادي لأن تصوير حفلة الزفاف مكلف جدًا ويحتاج إلى مطرب وعازفين وكورس فتعهد المخرج بأن يُريهم مالذي يفعله الإخراج وطلب من الطاقم كله أن يعبّروا عن انتصارهم للحب على الحقد والكراهية كما اعتبر هذا المشهد امتحانًا لهم جميعًا فتحمسوا كلهم وعلى رأسهم مساعد المخرج"أبو علي" الذي وعد بأن تكون النهاية مسكًا وعنبرًا حيث شرع بالغناء قائلًا:"والليلة عرس يخوان فرحولي". قبل أن يصل الفيلم إلى نهايته السعيدة تأتي "أمل" راكضة فرحة، ثم يتجه صوبها "جلال" جذلانَ سعيدًا ويحتضنان بعضهما بعضًا في إشارة واضحة لنجاح قصة حبهما السعيدة التي انتصرت في خاتمة المطاف على القيود الاجتماعية التي أفرزها الواقع المتخلف وتمّكنا من تخطّيه وتجاوزه بالحب الصادق، والصبر الجميل. ففيلم الحياة الذي لعبا فيه دور البطولة لم يُخرجه القدر وإنما أخرجته إرادتهما الصُلبة وأمدّتاه بإكسير الحياة الذي لا ينضب.
جدير ذكره أن محمد منير فنري من مواليد إدلب سنة 1949. ولد عام 1949 بـ"إدلب" في سورية. درس الإخراج السينمائي في معهد السينما الفرنسي بـ"باريس" وتخرّج منه عام 1974م. انتسب إلى مؤسسة السينما العراقية ببغداد التي أقامَ فيها حتى أواخر سنة 1989م. أخرجَ للسينما العراقية ثلاثة أفلام وهي "عبدالله العاشق" 1979، و "الأرقط" 1980، و "العربة والحصان" 1989. ثم عاد إلى سورية وعُيّن في المؤسسة العامة للسينما قبل أن يعمل مخرجًا للمركز الإذاعي والتلفزيوني في مدينة "حلب" لينتهي به المطاف في مدينته "إدلب" بالوظيفة ذاتها. سبق لفنري أن أخرج فيلمًا وثائقيًا يحمل عنوان "فاشية جديدة" عام 1984م وخطف الجائزة الذهبية في المهرجان الدولي للسينما الفلسطينية وجائزة مهرجان كارلوفيفاري. كما أنجز فيلم روائي عن المجاهد "ابراهيم هنانو" حيث كتب السيناريو بالاشتراك مع القاص والسينارست "خطيب بدلة". وأنجز في السياق ذاته العديد من البرامج والمنوعات والأعمال الوثائقية الأخرى للمركزين الإذاعيين والتلفزيونيين في "حلب" و "إدلب".