عبد الرحيم الخصار
انطلق فيلم "رحلة إلى القمر" للمخرج الفرنسي جورج ميليه من رواية لجون فيرن عنوانها "من الأرض إلى القمر" وشكّل من ثم اللبنة الأولى في الجسر الذي يربط بين الرواية والسينما (ملصق فيلم "رحلة إلى القمر")
يبدو المنزع الأدبي واضحاً في الكتاب الجديد للناقد المغربي سليمان الحقيوي "أسئلة السينما المعلقة" الصادر حديثا عن دار رؤية بمصر. ويأتي هذا الكتاب امتداداً لمشروعه النقدي الذي بناه في كتبه السابقة "الخطاب السينمائي، قضايا في التلقي والتأويل" و"سحر الصورة السينمائية" و"نقد السينما الأميركية".
يختبر كتاب "أسئلة السينما المعلقة"، في جزء مهم منه، العلاقة بين السرد والسينما من جهة، والعلاقة بين السينما والشعر من جهة أخرى. يتعقب الناقد المغربي حضور الأدب في السينما لا كثيمة، بل كرافد مهم للأفلام الحديثة التي تتخذ من الكتابة الأدبية مرجعاً أساساً لها، بل تجعلها إطاراً تقنياً أيضاً للعمل السينمائي.
يتساءل الحقيوي في أحد فصول الكتابة: "سينما الشعر أم شعرية السينما؟". وكي يجيب عن هذا السؤال عاد إلى نماذج من الأعمال السينمائية التي راهن مخرجوها على الأسلوب والجماليات الفنية، وعلى كيفية سرد الحكاية لا على الحكاية نفسها. يبدو لمؤلف الكتاب أن التسمية الأولى "سينما الشعر" ترجح كفة الشعر على كفة الفن السابع، لذلك يميل إلى المفهوم الثاني "شعرية السينما"، إذ يمنح هذا المصطلح ضوء الحضور إلى السينما نفسها.
شعرية الفن السابع
كان الناقد واللساني الروسي رومان ياكبسون يقول: "إن موضوع علم الأدب ليس الأدب، بل الأدبية". ويمكن نقل هذه القاعدة إلى حقل الفن السابع، ذلك أن ما يشغل الباحث الفني والمخرج على السواء هو مدى تحقق الشعرية داخل العمل السينمائي. إن أعمال لويس بونويل وأندريه تاركوفسكي وعباس كياروستامي وبازوليني وغودار وبرتولوتشي وغريفت وباراغانوف ونوري جيلان، وآخرين، على اختلاف أساليب مخرجيها، تتدفق بالشاعرية. إنها لا تتخذ الشعر قاعدة لها أو منطلقاً لتشكل العمل السينمائي، إنما تجعل المتلقي مفتوناً ومنجذباً إلى هذا العمل من معابر جمالية بالأساس. وليست اللغة وحدها هي آلية اختبار الشعرية، بل إن الصورة السينمائية كفيلة بترجمة المرجعيات الجمالية التي تتشكل في ذهن المخرج. يقول ألفريد هتشكوك: "الفيلم الجيد هو الذي إن حذف شريط الصوت بالكامل يظل المشاهد مستمتعاً به".
إن هذا النوع من الأفلام يراهن على التجريب، ولا يؤمن بخطية السرد، أو ضرورة تحقق عناصر الحكاية (بداية/ عقدة/ نهاية)، بل يسعى هذا النوع من الأعمال السينمائية إلى خلق جمالياته الخاصة، التي قد تشوش على المتلقي الخمول الذي يتوقع تحقق المنطق، وينتظر نهاية حاسمة في آخر كل فيلم. إننا أمام سينما تراهن على تعدد القراءات، وتؤمن في حق الجمهور في الاختلاف، وفي عدم الوصول بالضرورة إلى المناطق التي ينشدها المخرج، بل تجاوزه أحياناً أو في الأقل الانحراف عن التمثلات التي ينتظرها من جمهوره.
ومن أجل تقديم نموذج لهذه الخصيصة، اعتمد الحقيوي على تجربة لفلاديمير كوليشوف الذي قاده الجمهور إلى ثلاثة تأويلات مختلفة لمنجز بصري واحد، حيث ارتأت فئة أولى أنه يتناول تيمة الجوع، بينما رأت فئة أخرى أنه يدل على الحزن، فيما ارتأت فئة ثالثة أنه ترجمة للعطف الأبوي.
سينما النثر
عاد سليمان الحقيوي إلى مفهوم "سينما الشعر" ليضع بجواره مفهوماً آخر يتوخى المقابلة هو "سينما النثر"، وإذا كانت الثانية تقوم على ضرورة تجاور المشاهد وتعاقبها وفق حبكة صارمة ونظام يقطع مع الخرق والفوضى الفنية، فإن سينما الشعر تتعمد التجاور بين مشاهد متنافرة، غالبا ما تخلق ما يشبه الصدمة لدى المتلقي.
يخلص الحقيوي، وهو يقلب المفاهيم، إلى أن سينما الشعر هي تجسيد لشعرية السينما، بمعنى أن شعرية السينما تتحقق من طريق سينما الشعر. وعليه فسينما الشعر نوع، بينما شعرية السينما أسلوب.
الرواية والسينما
يطرح الحقيوي في فصل آخر بعنون (الحكاية في السينما. الحكاية في الأدب) سؤالاً ذا طابع مكوكي: ماذا استفادت السينما من الأدب؟ وماذا استفاد الأدب من السينما؟ ولا يتأخر الناقد المغربي في الجواب على الشق الأول من سؤاله، إذ يعود إلى سنة 1906 التي عرفت إخراج أول فيلم سينمائي يعتمد الحكاية، من ثم الخيال، عموداً فقرياً له، بدل الأفلام السابقة التي كانت ذات طابع توثيقي واقعي.
لقد انطلق فيلم "رحلة إلى القمر" للمخرج الفرنسي جورج ميليه من رواية لجون فيرن عنوانها "من الأرض إلى القمر". وشكل من ثم اللبنة الأولى في الجسر الذي يربط بين الرواية والسينما، والذي سيصير أكثر متانة مع تعاقب تجارب عالمية انطلق مخرجوها من أعمال روائية. وإذا كان جورج ميليه رائداً في هذا الباب في فرنسا، فإن الريادة في أميركا كانت للمخرج ديفيد غريفث الذي اشتغل على روايات تشارلز ديكنز.
يتوقف الحقيوي عند صعوبات ومزالق نقل النص الروائي إلى السينما، فالعملية تقتضي وساطة جنس ثالث لا ينتمي إلى السينما ولا إلى الأدب، هو السيناريو الذي يقول عنه تاركوفسكي: "السيناريو لا يمت للأدب بصلة، ولا يمكن أن يكون أبدا نوعا من الأنواع الأدبية".
إن علاقة الرواية بالسينما علاقة تقتضي التوتر لا التناغم، فتحويل عمل مكتوب إلى منجز بصري وسمعي محفوف بالمغامرة. وربما لهذا السبب أورد المؤلف حكاية غابرييل غارسيا ماركيز الذي رفض أن يتم نقل روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة" إلى الشاشة الكبيرة. يطرح ماركيز في هذا الصدد سؤالاً، ثم يجيب عنه: "أتعرفون لماذا لا أقبل أن تنقل روايتي إلى السينما؟ لأنني أريد احترام مخيلة القارئ، حقه السامي في تخيل وجه الخالة أورسولا أو وجه الكولونيل مثلما يشتهي".
إن الفيلم يرسم حدوداً لمخيال المشاهد، فتتشكل أمامه الشخصية كاملة بملامحها وملابسها وحركاتها. وهذا ما تقطع معه الرواية، فهي تترك للقارئ مساحة التخييل على أوسع نطاق، وتتيح له فرصة بناء ملامح الشخصيات وتفاصيل المشاهد وفق قدرته الخاصة على التخيل، أو في الأقل تمنح الرواية لقارئها فرصة المشاركة في رسم الشخصيات وما يتصل بها من أشكال التفاعل مع محيطها. وحين تتداخل موهبة المخرج مع موهبة الروائي مع موهبة السيناريست، فإن هذا التداخل لن يخلق بالضرورة عملاً ناجحاً، فنجاح رواية بشكل مبهر لا يعني بالضرورة أن تحويلها إلى عمل سينمائي سيحقق الإبهار ذاته.
وربما لهذا يشعر كثير من قراء الرواية بالصدمة حين يشاهدونها وقد تجسدت على الشاشة الكبيرة، وقد تكون الصدمة ذاتها للذين شاهدوا الفيلم ثم قرأوا الرواية لاحقاً. وسيكون الإحساس في الغالب لدى الفئة الأولى هو أن الفيلم قد اختزل الرواية أو قزمها، بينما سيكون شعور الفئة الثانية هو أن الرواية لا تشبه الفيلم، أو في الأقل تناقض بعض عناصره. والحقيقة أن لكل فن أسلوبه، وطرائق تخلقه، ثم إن عبقرية الروائي ستزاحمها بالضرورة عبقرية المخرج، هذا إن وضعنا السيناريست موضع حياد، وهو أمر مستعص طبعا. فالمخرج يريد أن يضيف إلى النص الأدبي لمسته، محاولاً تفادي النقل المباشر للأحداث وتصوير الأماكن والشخصيات تصويراً يطابق وجودها الروائي. وإذا كان الروائي غالباً ما يتحدث عن صعوبات الكتابة وما تقتضيه من جهد بحثي ومشاق لا حصر لها، فإن المخرج يحاول دائماً أن يخبرنا بأن الصعوبات والعوائق التي تعترضه قد تتجاوز ما يشكو منه الروائي. يقول المخرج الأميركي ستانلي كوبريك: "الإخراج السينمائي تماماً كمحاولة كتابة رواية من ألف صفحة أثناء قيادتك سيارة دفع رباعي على جبل".