سهيل نجم يفض العبارة
15-تشرين الأول-2022
صباح الأنباري
(فضّ العبارة) مجموعة شعرية هي السابقة وكأنها اللاحقة بعد البدء. شعريتها، ولغتها، وبناء عباراتها هو الحكم الظاهر على مدى هذه الأسبقية. فهل من مصلحة الشاعر أن يمحو البدايات المعهودة ليظهر بمظهر الشاعر العابر لتلك البدايات، والمميز بقدرته على إدارة القصيدة ابتداءً من مجموعته الأولى؟ هل اختفت بداياته بفعل الزمن وتقادمه؟ أم تركت فضاعت بين ركام الأوراق التي أهملها الشاعر لسبب أو لآخر؟ أم أن انشغال الشاعر بالترجمة والاهتمام الفائض بها حتّم ذلك الفقدان؟ أستطيع القول إن سهيل نجم بدأ مترجماً قبل أن يكون شاعراً وهذا يعني انفتاحه على آفاق شعرية واسعة، وتجارب غنية، ورؤى شعرية بمساحات كبيرة، وقراءات ثرة غنية متفوقة برصانتها وتنوعها منحته نفسها فاتسعت عنده الرؤيا وتعقدت فما كان له إلا أن يفضّ عنها ضيق العبارة كي تتناسب مع رؤيته التي لا تني تتسع وتتسع لتشمل كل عالمه الشعري.
المرجعية المتراكمة الخبرة، وخزينها المعرفي الهائل هي ما استند عليه سهيل نجم في مشواره الشعري، وانطلق منه نحو تأسيس عالمه الرافض لكل أشكال الترهل والإسفاف. وكما السياب اطلع قبل بادئ ذي بدء على الشعر الإنكليزي بعد أن طوّر قدراته القرائية في اللغة الإنكليزية وافتتح تلك القدرات بترجمة مهمة لمختارات من الشعر الإنكليزي التي طبعت عام 1990 وتبعها بترجمة للمبدع الأشهر كازنتزاكيس قبل حلول عام 1994 ليطبع مجموعته الأولى (فض العبارة) وهذا يعني أنه بدأ مترجماً قبل أن يكون شاعراً فمُنِحَ حصانة ضد الوقوع في أسر أي سابق له في ميدان الشعر العربي. والدليل على ذلك مجموعته الأولى التي اتسمت بنقاء صوته الشعري، وتميّزت بخلوها من تأثيرهم عليه. فهو دقيق في كل مفاصل القصيدة ابتداء من عنونتها وانتهاء بخواتيم رؤاها. لقد اختار لقصيدته الأولى عنوانا لافتا (سلالة النحاس) وبقدر ما في هذا العنوان من الغرابة فيه دقة عالية تشي باطلاع كبير على الميثولوجيا اليونانية فسلالة النحاس كما وضح من خلال هامش القصيدة تعني السلالة التي تميزت عن باقي السلالات بكثرة خوضها للحروب وهي البديل الموضوعي لبلاد الشاعر التي أرهقتها حروب لم تنتهِ بعد وسوف لن تنتهي بأجل مسمّى وكأنها خلقت من أجل هذا الهدف التدميري الذي لن يتوقف عند حد معين. وسهيل نجم مثل أقرانه من الشعراء الذين لم يتخلصوا من قيد العنونة التي تتأسس عادة على عنوان واحدة من قصائد المجموعة فالعنونة المركزية (فض العبارة) جاءت من قصيدة بهذا العنوان وأراد لها أن تعبر عن فحوى المجموعة كلّها. وهكذا كان الحال مع مجموعتيه اللاحقتين: (لا جنة خارج النافذة) و (فردوس أسود).
لقد ادخرت سلالة النحاس رموزا كثفت غموضها المتأت من كثافة المعنى المراد إيصاله الى المتلقي وعلى حد قول أحدهم: تصدر عنا أقوال قوية حين لا نتعمد أن تصدر عنا أقوال غريبة. وهذا ينطبق على قصائد سهيل نجم ليس في هذه المجموعة حسب، بل في كل ما صدر له لاحقاً. فهو لا يتقصد الغرابة بدافع خلق الدهشة، بل يتقصد قوة العبارة لإحداث تلك الدهشة.
اشتغلت قصيدته الأولى (سلالة النحاس) على ما يشبه التوطئة تبعتها أربعة أصوات بشرية مختلفة ومنفصلة بمعنى أنها لا تخلق حالة صراع مع بعضها بعضا بالمفهوم الدرامي لأنها تتقن صراع الأفكار حسب. ومع أن سهيل نجم أراد تقريبها من الدراما- وقد سبقها بكلمة للكاتب المسرحي الأشهر وليم شكسبير- إلا أنه أراد لها أيضا الاقتراب من صروح القصائد وعالم الشعر الذي وطن نفسه عليه. في المقطع الأول تظهر لنا مؤثثات القصيدة: طبيعتنا النحاسية، لغتنا الضائعة ورماحنا التي تأكل أيدينا، وحقول الحديد، وكواكب وقمرا كهلا، وفحولة تطفو فوق البحر وكأن المنظر برمته مسحورا:
هل كان المنظر مسحورا؟
هو ذا النهر النحاسي يحاصر اللغة
ويجثم فوق المدن النائحة.
هل ثمة غموض في هذا المقطع؟ لا اعتقد، إن فهمنا طبيعة السلالة التي يتحدث عنها الشاعر (السلالة النحاسية) التي جبلت على خوض المعارك الدائمة. ونهر تلك السلالة هو تاريخها الذي يجري من أول العصور نحو شن المعارك الدامية، التي تراكمت تاريخياً وصارت تجثم على مدننا منذ الأزل تاركة إياها لنواح الأمهات الثكالى، وبكاء الخلان المفارقين لخلانهم، وآلام نأي العشاق، ومرارات الوحشة والوحدة والأنين والتهجير والتكفير والتدمير وتهديم النفوس بشتى السبل التي تفضي الى استمرار معاناة البشرية. هذا التاريخ الدموي لا يكتفي بإراقتها، بل يفرض حصاراً عليها ويحرّم النطق ضد مجراه ويجرمها. لقد تراكم بمرور الوقت حتى صارت المدن النائحة ترزح تحت نيره الثقيل، ثم تأتي الأصوات وكل منها يعبر عن مأساته بطريقته التي تتباين وتلتقي مع معاناة الآخرين: الأول غارق في نحيب أخرس وهو يكتم ألم ومرارة أيامه التي أكلها الظلم والقهر والأنين. والثاني يرثي أيامه التي أكلها الظلام وحولها الى دخان ورياء من نحاس. والثالث يتمنى من رئة السلالات أن تحتطب وتحرق كل شيء لتطهّر الوجود أملاً في جعل الأيام تزجر الناس الذين صاروا يدمنون البكاء، ثم يعرّفنا بنفسه وبهم قائلاً:
نحن الأجراس،
اليتامى الصدئون،
نحن أبناء النحاس.
هذا في المقطع الأول من القصيدة أما في المقطع الثاني فتتكرر الأصوات نفسها مع إضافة صوت رابع جديد ينبههم من الغواية في النهايات السائبة، ويحثهم على الاشتباك النحاسي فهم جيل من الأبواق الصدئة التي يتناوبها التناسل الجذامي. عند هذه النقطة تتوقف القصيدة بينما تظل فكرتها قائمة وربما ستظل هكذا على مدى الأزمان المقبلة. في أنموذج هذه المجموعة (فض العبارة) تتفرد الذات وتتمظهر الأنا خلف صوت الشاعر الذي يأمر النشيد بقتله في (توطئة) القصيدة ويفرض عليه الخيار بين اثنتين القتل والحرق ثم بين القتل والمهل وأخيرا بين فعل مالا يفعل والقتل:
اقتلني
ومما جذب انتباهنا في هذه التوطئة هو استخدام مفردة اللغة التي ستتكرر مرات كثيرة ضمن هذه المجموعة وبمعان مختلفة مثل العتمة اللغوية، واللغة الموات، واللغة الخرقاء.. إلخ. وهذا يرتبط بشكل أو بآخر بعنونة المجموعة (فض العبارة) وبما يرمي إليه الشاعر من تفكيك لغة الشعر أو ترميمها بلبنات هي الأقدر على رص صفوف البناء وتماسكه من جهة، وإشارة الى تدني اللغة وإسفافها مدحا أو قدحا من جهة أخرى. إن مجرد التفكير ببناء القصيدة وإن اقتصر على جانب البناء اللغوي يعدّ الدليل على سيطرة سهيل نجم على أدواته الشعرية، وقدرة تجديده لها، وإضفاء فلسفته الخاصة عليها، وبرأيي فان منجزا كهذا هو بحد ذاته عطاء كبير في مجموعة بكر، ودليل على أن هذه المجموعة لم يبدأها سهيل نجم من الصفر، بل من مستوى يتقدم كثيرا على ما يعرف بالبدايات. وبقدر تعلق الأمر بالتجديد يتعلق بالعنونة المركزية للمجموعة والذي تأسس على هدف فك ارتباط الكلمات وتفريقها كي تجمع من جديد بطريقة تتجلى من خلالها أفكار الشاعر وهواجسه، وإذا عدنا الى معنى مفردة (فض) سنجد أنها تأخذ معانيها مما يأتي بعدها من الكلمات فحين نقول فض التظاهرة فإننا نعني فرّقها وعندما نقول (فض الله فاه) بمعنى نثر أسنانه وحين نقول فض النزاع بمعنى حسمه وأزال أسبابه، وفض الماء بمعنى صبّه.. إلخ من المعاني، ولكنها إذ ترتبط بمفردة العبارة فإنها تعني تفكيكها وإعادة صياغتها وبمعنى أدق تفكيك لغة الشعر وإعادة صياغتها فقد وردت هنا بمعنى اللغة أو الدال عليها وهذا هو ما ارتآه سهيل نجم وجعله بسملة للقصيدة التي هيكلها على شكل توطئة وست فضاءات. كل فضاء فيها قصيدة أو يكاد.
في الفضاء الأول استترت المعاني خلف الرموز، واستبدل البوح الناطق الصريح بالبوح الصامت المكتوم لأسباب تتعلق بالأذى الذي قد يلحق بالشاعر من خارج القصيدة يقول الشاعر بين السطور وخلفها:
في أجهزة التحقيق الممض،
حروف آبقة
والآبق معجمياً هو العبد الهارب، وبمعنى آخر استخفى واستتر ثم ذهب وهكذا يهرب الحرف الآبق في مجالس التحقيق ليقتل المعنى ويدمر المعتقلين بإلصاق التهم والافتراء على الضعفاء من الناس. لقد عمّ الظلم والظلام واستشرى الفساد في جسد المدن النائحة فغفى الناس على الويلات وصحو على المعاناة، ولا يزال النشيد يمزق المسامع فتصدأ القلوب، وتنخر العقول، ويذبل النشيد على شفاه المغني بينما يظل ملك اللغة في هذيانه، ولغته الخرقاء، وخطاباته الجوفاء، وهو ينال في غلوائه من الجمال تجريحاً وتقبيحاً ونثراً لدمامله على وجه البسيطة وعلى وجه الأمير الصغير ذي الوجه المنير، والشعر الماسي حتى تصبح الفراشات معادن، وتغدو الريح تعباً، ويمسي الضحك رمالاً. و
تفض أجنحةً الليلك غبار السماء
ثم ترفعه عالياً
إلى خيمة بداة كرهوا مساءهم
فانتثروا
نهيرات دم على كف الجزيرة
والشاعر يحث الخطى مصرا على فض العبارة، وسلامة الرؤيا ليصبح كلامه مبشرا للكمان بالنشيد بعد أن راحت المواسم تنمو في رئتيه، ورماد البداوة يستعر في دخيلته محولا الفكرة الى مدار يلتف حول فض العبارة ومحيطها الضوئي.
ومن الفضاء الأول الى الفضاء الأرضي وفيه يقدم لنا الشاعر رؤيته عن الأرض التي تدور بأحجارها القديمة، وعن الكواكب التي تشع بالهجران في الوقت الذي يظل هو مخمورا بسراب العبارة. وعلى الرغم من كل هذا يأمر أرضه بالدوران لتحرره من أسر ناموس مجحف ويبدو أن الحجارة عنده هي نحن التواؤم الحقيقية للحجر الأصم، ولا راحة لنا لفقدنا ما نحن بحاجة إليه ولا رجاء لنا في أباطرة أو صحارى:
أيتها العناصر المكهربة بالتماسك الحر،
لا صحراء تشربك
ولا أباطرة يرضعون خوفك،
في (فض العبارة) لا تحتاج الى استدراج المعنى وان شئت هذا فاتبع موسيقى القصيدة وإيقاعها الداخلي فهي وحدها من توصلك الى أغوارها وهواجسها وأحاسيسها العميقة، اقرأها وكأنك في نشوة افتراضية مسكرة غائباً عن الوعي، أو مبحراً في أغوار اللاوعي السحيقة. اتبع خيط الكلمات المعلقة مثل خرزات مسبحة (الكوك) أو (اليسر) بخيط واحد فالخرزات كلماتها والشاهد أو (الشاهود) عنوانها المركزي. افركها بين يديك لتفوح منها رائحة زكية إن استطعت تبيّن عطرها فقد أمسكت بتلابيبها برفق، واستحوذت على مكنونها بقوة، وعند ذاك فقط لا تسأل عن المعنى لأنك لامست جوهره المحض. المعنى التقليدي مات ورثاه الشاعر وهو يبحث الآن عن معنى آخر ليس له شأن بالهذيان تتأسس عليه قصيدته المحدثة:
كان الكلام
قد وجد القناعة في المعنى،
لكنه سرعان ما
خرَّ صريعاً
لقد مات المعنى، وتلوَّت الرعود، وهدأت العواصف في غور التكتم، وتبدل الوقت، واشرأبت أعناق الزهور بلا استئذان، وتبرجت الغصون. وجاء الوقت الذي ترفع فيه السواكن عن سواكنها وعند ذلك فقط تبعث اللغة الجديدة من رقدتها لتشرب الضوء والمدى، وتلك في النهاية لم تكن سوى أمنيات ممزوجة بالثمر المر، قد تجترح أمنيتها الأخيرة وتزهر على الرغم من جبروت الوحش القابض على جمرتها المتقدة
هذا وحش المعنى
يضع الألفاظ في ماء الرصاص
تلك إذن طريقة سهيل نجم في فض العبارة، واستبدال اللغة بما يضمن جمالية المعنى، ورقي الكلمة، ووضوح الرؤيا.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech