شخصيات روائية عالمية تواجه لعبة الموت... باللهو
23-آب-2023
أنطوان أبو زيد
إنها الرواية الـ13 للكاتب السوري الكردي جان دوست (1965) بعنوان "اللاهي" (شركة المطبوعات بيروت)، يختبر فيها الكاتب، الملتزم بقضايا شعبه ومجتمعه، نمطاً آخر من الكتابة، تجريبياً، على سمت الرواية الحديثة التي لا يرى أصحابها ضيراً من التلاعب بكل عنصر أو مكون من مكونات الرواية، سعياً إلى التجديد فيها وتوسيع العالم الروائي، وابتداع آفاق جديدة مواكبة للعصر وقضاياه ومشكلاته الوجودية والفنية، على حد سواء.
وإن يكن صوت الروائي الكاتب غائباً، من متن رواياته، على ما بات مستحسناً في النسيج السردي الحديث، تاركاً لشخصياتها المجال كي تؤدي أدوارها المنسجمة مع خطابها، فإن صوت قائد الأوركسترا - كناية عن الروائي - يمكن أن يكون مسموعاً أحياناً، على قولة الروائي التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا، في كتابه "فن الرواية". ولعل هذا ما حاوله الكاتب جان دوست، ولكن في ما يتجاوز الإلماح ورفع الصوت إلى صنع المصائر، من خلال ابتكاره شخصية الكاتب العجوز، نيابة عنه، وجعل الأخير مشرفاً مباشراً، في الحكاية، على تحريك دماه، بخيوط معلومة، ورسم إطار مسرحي مضبوط لحركتهم، وبسط أمزجتهم، وضربهم بعضهم ببعض، كأن تضرب أخماساً بأسداس، وتمويتهم، واحداً بعد آخر، في لعبة أحسب أنها تندرج في تجربة الكاتب دوست الجديدة.
إنهم ينتظرون الفجر
إذاً، بعد روايته "إنهم ينتظرون الفجر" والصادرة عن دار الساقي، في العام نفسه (2022)، التي يروي فيها مأساة شخصيتين: الروائي آمند بن المهندس كمال الدين وسجنه، وخروجه منه بعاهة لن يشفى منها، ودخول الشابة نشتيمان في معركة الخنادق، إلى جانب رفاقها ورفيقاتها، بآمال عراض في كسر شوكة السلطة التركية، وإحلال ما يسمى بالإدارة الذاتية بقيادة حزب العمال الكردستاني، غير أن المعارك كانت لها آثار مدمرة في المجتمع الكردي، عدا آلاف الضحايا الذين سقطوا في هذه المعارك وغيرها، من دون إحراز أي نصر سوى في الإعلام. بعد هذه الرواية، أو بالتزامن معها، شاء الروائي جان دوست أن يقارب العالم من وجهة نظر فنية جمالية، إذ جعل حكاية الرواية يتلو وقائعها كاتب عجوز، ويحيك نسيجها، وهو حاضر في متن الرواية، شخصية فاعلة، بل محيية للشخصيات ومدبرة لهم مغامرات تناسب نفسياتهم وخصائصها التي لطالما عرفوا بها في الروايات التي انتزعوا منها.
إحياء 13 شخصية
ومن هذا القبيل، اختار الروائي جان دوست أن يعيد إحياء 13 شخصية مستلة من 12 رواية (غربية وعربية) وشخصية واحدة (قايين، أو قابيل) من النصوص الدينية (التوراة) وهي على التوالي، من دون كيخوته من رواية دون كيشوت للكاتب الإسباني سرفانتس، وأدسو، من رواية "اسم الوردة للكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو، وإيما بوفاري، من رواية "مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، وجيوفاني دروغو من رواية "صحراء الترتار" للكاتب دينو بوزاتي، وسانتياغو من رواية "الشيخ والبحر" لهمينغواي، وألكسيس زوربا من رواية "حياة وتقاليد أليكسيس زوربا" للكاتب اليوناني نيكوس كازاتزاكيس، وكونستانس تشاترلي من رواية "عشيق الليدي تشاترلي" للكاتب الإنكليزي دايفيد لورانس، وإدريس الجبلاوي من رواية "أولاد حارتنا" للكاتب المصري نجيب محفوظ، وقايين، وهي شخصية مستمدة من التوراة، وغريغور سامسا من رواية "التحولات" للكاتب التشيكي فرانز كافكا، والماركيز دو ساد، الشخصية المعروفة كاتباً ومعترفاً بممارسته شتى الأفعال الجنسية والجرمية التي فصلها في كتابه، وراسكولنيكوف الشخصية المستلة من رواية "الجريمة والعقاب" لمؤلفها دوستويفسكي الشهير، ويوهان موريتز.
إطار الأرض الخراب
لا أقول إن الرواية رمزية بكاملها، ولكن إطارها المكاني يكاد يكون كذلك، بحيث يمكن للقارئ أن يقارن صورته بكل إطار مديني أصابه من شرور الحرب الضروس ما أصابه، فقضت على الأخضر واليابس، ولم يتبق سوى هياكل متفحمة، في "أحياء المدينة الثلاثة" (ص:13)، وانطفأت كل حياة، و"اكتظت الشوارع بالجثث"، في ديكور أشبه ما يكون بالأرض الخراب. ولما كان الديكور على هذه الصورة الموحية بالموت والفناء والإفناء، يرسم الكاتب إطاراً أصغر لحكايته الغريبة، إذ يجعل من فندق باراديسو ملتقى لشخصياته الـ13 بعد فرارهم الاضطراري من الروايات التي ضمت كلاً منهم، بسبب القصف الذي طاول المكتبة حيث هي وأحرق منها ما أحرق، وتناثرت الكتب وأوراقها في كل ريح. وكان أن خرجت الشخصيات هذه - أو أخرجها الروائي العجوز- مرة أخيرة إلى الوجود، في ذلك الفندق، وانطلقت منه في مغامرات ومسامرات، وحوارات، وجرائم أيضاً، ففي أول لقاء بين كل من دون كيخوته وجيوفاني دروغو يصعقهما منظر حشرة ضخمة ملقاة على الأرض، لا تلبث أن تتحول إلى جثة شاب مطعونة ثلاث طعنات. ويتنبه دروغو إلى أن المغدور إن هو إلا شخصية غريغور سامسا، في رواية تحولات لكاتبها فرانز كافكا ذات المناخ الغرائبي والعبثي.
ولدى دخول هذين إلى الفندق الوحيد (باراديزو) الموجود في المكان، تسنى لهما التعرف على الشخصيات الأخرى التي خرجت لتوها من الروايات، شأنهما، وهم على التوالي سانتياغو، وأليكسيس زوربا، ومن ثم إيما بوفاري، والليدي كونستانس تشاترلي. ومن ثم لحق بهم إدريس الجبلاوي وقابيل، وراسكولنيكوف، ويوهان موريتز، والماركيز دو ساد.
على طراز "10 زنوج صغار"
وبينما كانت بعض الشخصيات تنعم بحرارة العلاقات في ما بينها، ويسارع الذكور منهم إلى طلب الملذات ومواقعة كل من الليدي تشاترلي ومدام بوفاري ما استطاعوا إليهما سبيلاً، ولا سيما الماركيز دو ساد وقابيل وزوربا، راحت تتوالى الجرائم في حق كل من غريغور سامسا وسانتياغو وألكسيس زوربا وغيرهم. وكان يسارع إلى التحقيق في حادثة المقتل الشاب إدسو البنديكتي (مساعد المحقق في رواية "اسم الوردة")، ويهم دون كيخوته إلى معونته، بدافع من نخوته التي لطالما أثرت عنه، في الرواية الأصلية. وهكذا، تتوالى الجرائم التي تطاول الشخصيات المستعادة من متون رواياتها، كل على حدة، من دون أن يتمكن المحققان أو المحقق الباقي على قيد الحياة من فك ألغاز مقتلهم. وكأنما صاغها المؤلف جان دوست على طراز المقتلة في رواية أغاتا كريستي "10 زنوج صغار"، التي لم يبق فيها أحد حياً.
ولكن الافتراق الأساسي بين رواية دوست، ورواية أغاتا كريستي، أن في الرواية الأولى تدخلاً مباشراً من شخصية تنوب مباشرة عن الكاتب (دوست) عنيت بها "الكاتب العجوز" الذي أباح لنفسه التصور أن تخترق الشخصيات (المعاد إحياؤها) الحدود التي وضعت لها في الروايات، وأن "تفاجئ الأدوار الجديدة الصادمة القراء الذين بنوا تصوراتهم عنكم من خلال حياتكم في السجون الورقية التي حررتكم منها اليوم" (ص:36). ويقول: "إن ما سأقوم به هنا لعبة ميتا سردية. أتحت لكم فرصة الخروج من هذه السجون الورقية لتتعارفوا من جهة، ولكي أرى كيف ستمضي بكم سفينة السرد في بحر الخيال المطلق من جهة أخرى" (ص:36).
قد لا تكون هذه الاستراتيجية في الكتابة الروائية جديدة كلياً، في سياق الأعمال الروائية العربية التي يمكن إدراجها في خانة تيار الرواية الجديدة، على ما رسمته تجارب الستينيات في الغرب، ولا سيما ألان روب غرييه وغيره. إلا أنها تشكل انعطافاً جديداً في نتاج الكاتب جان دوست، دالاً على رؤية فنية شاملة تكونت لديه على مدار السنوات الـ30، مدة انشغاله بالكتابة الروائية وغيرها. ومفاد هذه الرؤية بأن الكاتب أو المؤلف هو سيد النص، وليس الواقع، ولا الآيديولوجيا، ولا التاريخ، ولا الأمثولة الأخلاقية. "لست ساحراً يا قايين. أنا مؤلف. أنتم لستم سوى شخوص في خيال الظل وأنا المخايل. أنا صانع شخصيات من العدم ونافخ الروح فيمن مات منها ولم يوجد أصلاً". (ص:172). وما الحبكة المختلقة سوى لعبة الكاتب، يدلل فيها على براعته في خلق العوالم الموازية وإبطالها.
للكاتب جان دوست ما يناهز 30 عملاً، بين الرواية والشعر، ومن أعماله: "مدينة الضباب"، "ثلاث خطوات ومشنقة"، "عشيق المترجم" وغيرها. وله أيضاً مجموعات قصصية، منها "رماد النجوم" وغيرها. وحصل الكاتب على جوائز عديدة منها جائزة القصة الكردية القصيرة، وجائزة الشعر من ألمانيا.