صبري حافظ يستشرف مستقبل عقلانية طه حسين
1-تشرين الأول-2023
محمد السيد اسماعيل
لعل مرور خمسين عاماً على وفاة عميد الأدب العربي طه حسين، هو مناسبة أثمرت العديد من الدراسات الجادة التي صدرت في كتب عدة منذ بداية عام 2023، ومن أحدثها كتاب الناقد صبري حافظ "طه حسين الإنسان والمشروع" (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة). وهو كتاب يهدف، كما يقول مؤلفه، إلى "تقديم هذا العقلاني المجيد إلى الأجيال التي لم تعرفه بحق، في زمن انحسار هائل للعقلانية التي رادت خطواته". ويعني ذلك أن الرجوع لمشروع طه حسين ليس رجوعاً إلى الماضي القريب بل استشراف لمستقبل قادر على إحياء القيم التي عاش لها صاحب "دعاء الكروان" وجيله من رواد النهضة من خلال استنهاض الحاضر الذي وقع في أسر التقليد والتبعية. من أجل هذا يتسم الكتاب بالشمول، بأن عالج في اثني عشر فصلاً، العديد من كتابات طه حسين بادئاً بـ "الأيام" في أجزائها الثلاثة، وكتاب "في الشعر الجاهلي" وما أثاره من ردود فعل عنيفة ومتطرفة على يد مصطفى صادق الرافعي تحديداً، ثم كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر" الذي كان برنامجاً عملياً وشاملاً للنهوض بالتعليم والثقافة معاً.
والملاحظ أنه ما من كتاب أصدره طه حسين إلا قوبل بردود فعل واتهامات غير موضوعية. ففي "مستقبل الثقافة في مصر" مثلاً، بدا الأمر كما لو كان يقيم قطيعة مع التراث العربي والإسلامي ويربط مصر بثقافة الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط وبخاصة التراث اليوناني. وهو ما ذهب إليه سيد قطب في مقال له عن الكتاب. ويستمر الأمر مع كتابه "مع المتنبي" الذي يقدمه بقوله: "ليس المتنبي مع هذا من أحب الشعراء ولا آثرهم عندي، ولعله بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار". ومع ذلك فهو لم يتردد في أن يثقل على نفسه ويجبرها على ما تكره، وهذه إحدى صفاته.
كتابة مختلفة
طه حسين في دراسته هذه كان مختلفاً عما كان يكتب من دراسات نقدية في هذه الفترة، حيث لم يشأ أن يتوقف عند نسب المتنبي من ناحية أمه أو أبيه بل كان همه البحث عن "أدبه ومكانته من الأدباء وأصحاب الفن القدماء والمحدثين". ولا يفوت صبري حافظ التوقف عند سرديات طه حسين في "المعذبون في الأرض"، و"أديب"، و"دعاء الكروان"، و"ما وراء النهر"، وصولاً إلى إسلامياته التي تبدأ بكتاب "على هامش السيرة" وتنتهي بـ "الشيخان"، مروراً بـ "الوعد الحق"، و"الفتنة الكبرى" بجزأيه، و"مرآة الإسلام". والكتاب كما هو واضح من عنوانه يشتمل على قسمين كبيرين: طه حسين الإنسان ومشروعه الثقافي شديد التنوع والثراء، وقد بدأه صبري حافظ بالحديث عن "تلك اللقاءات المعدودة كمدخل للتعامل مع الإنسان". ويرجع صبري حافظ الدور الفعال الذي قام به طه حسين وجيله إلى قيم المرحلة الليبرالية التي تراجعت منذ أوائل الخمسينيات التي أصبح الاعتماد فيها على ما عرف بأهل الثقة بدلاً من أهل الخبرة، الأمر الذي جعل الأجيال اللاحقة لطه حسين محدودة الأثر والفاعلية. ولا يخلو الكتاب من بعض ملامح السيرة الذاتية لصاحبه حين يحكي عن الظروف التي هيأت له السفر إلى لندن والعمل في أكسفورد وتكليفه بقراءة "الأيام" لدارسي العربية ثم حصوله على منحة الدكتوراه من الجامعة نفسها.
مثقف عضوي
يقول صبري حافظ إن أي متابعة لحياة طه حسين منذ عاد من بعثته وهو في الثلاثين من عمره، كانت ثورة 19 قد اندلعت، تكشف عن تكريس نفسه لأهداف تلك الثورة، وهو ما جعله يبدأ دروسه في الجامعة بالحديث عن التاريخ اليوناني القديم وأنظمة الحكم الديمقراطية، فقدم لطلابه كتاب أرسطو الشهير "نظام الأثينيين"، أو "دستور الأثينيين"، بل ينهض بترجمته إلى العربية وفي ذلك يقول: "إذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدراستها، فإني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى العربية، لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد". إن طه حسين بهذا يمثل صورة ناصعة لما دعاه غرامشي بالمثقف العضوي المهموم بقضايا مجتمعه وما يعترض طريق تقدمه.
نزعة الشك
ولم تكن الشكوك التي أثارها طه حسين حول صحة الشعر الجاهلي أمراً طارئاً في حياته، لأن من اليسير أن نصفه بأنه ذو عقل شكي منذ طفولته كما يبدو في "الأيام" حين يقول متحدثاً عن نفسه: "كان من أول أمره لا يحفل بما يلقى من أمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم، وكان ذلك يكلفه كثيراً من الألم والعناء". وكأنه أراد أن يقول لمن هاجموه وحاكموه إن نزعة الشك هذه هي إحدى صفاته التي لازمته طوال حياته، وهي بالفعل الصفة القادرة على إعادة النظر في كل ما نتعامل معه بوصفه مسلَّمات. إن طه حسين قد حكم عقله في كل شيء متمثلاً قول أبي العلاء "كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيراً في صبحه والمساء". وميزة طه حسين أنه حوَّل العقل من الدفاع إلى الهجوم، كما يقول صلاح عيسى في كتابه "طه حسين ومحنة العقلانية في مصر"، لكنه – وتلك أزمته – "كان منشداً بغير كورس، وكان مفكر طبقة غريبة من تلك البرجوازيات التي تنمو في عالم غير عالمها". وعلى رغم كل هذا فإن هذا العقل الشكي النقدي هو الذي قاده إلى ما وصل إليه من مكان ومكانة.
اللافت – حقاً- أن مجلة "الكاتب المصري" اتفقت مع عدد من كبار الأدباء الأوروبيين والأميركيين على أن يوافوها بمقالات وقصص تكتب لها خاصة، فيكون قراء العربية أول من يقرؤونها وهو ما لم يحدث مع مجلة عربية من قبل أو من بعد في حدود ما نعلم. وقد سعى طه حسين إلى أن تكون هذه المجلة أداة مصر للنهوض بدورها فتعنى بقديم الأدب كما تعنى بالأدب الحديث الذي ينتجه الممتازون من كتاب الشرق العربي، في الوقت الذي تهتم فيه بالآداب الأجنبية، وهو ما جعل المجلة على صلة بأحدث المذاهب النقدية والأدبية، ولك أن تعلم أن سلامة موسى قد كتب في هذا الوقت المبكر عن "السيميائية: المنطق اللغوي الجديد" قبل أن تصبح موضة لغوية ونقدية بعد أربعة عقود. وعلى رغم هذا الدور المهم للمجلة فقد تعرضت للحصار والاتهامات المجانية ووقفت الحكومة ضدها فلم توفر لها حصة الورق المطلوبة وعملت على تأخير وصولها إلى الأسواق العربية وكان ذلك بسبب بدء طه حسين نشر فصول كتابه "المعذبون في الأرض" فيها. ناهيك عن اتهامها بنشر الصهيونية بسبب تمويل أسرة هراري اليهودية لها. وهي أسرة ليس لها أدنى علاقة بالصهيونية بل إنها هاجرت إلى فرنسا ولم تهاجر إلى دولة الاستيطان الصهيوني بعد إعلان قيامها.
الخطاب الديني
يمكن النظر إلى إسلاميات طه حسين بوصفها إنجازاً أصيلاً في الصراع بين الخطابين التقليدي والتجديدي في الرؤية الإسلامية، وقد نجح هذا الخطاب التحريري في زعزعة الأسس التي ينهض عليها احتكار المثقف التقليدي. ولم يكن طه حسين وحده في هذا الصراع، فقد بدأت هذه المحاولات العقلية على يد محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد"، ثم "في منزل الوحي"، و"الفاروق عمر"، و"الصديق أبو بكر". وبالتزامن مع هذا بدأ مشروع طه حسين في إسلامياته وبدأ العقاد سلسلة عبقرياته. وهكذا تواصلت مسيرة استيعاب الموضوع الديني في بنية الخطاب الجديد في العقود التالية. فنجد فتحي رضوان يكتب "محمد الثائر الأعظم"، ومصطفى محمود يكتب "الله والإنسان"، حتى بلغت تلك المسيرة ذروتها في الستينيات بنشر عبدالرحمن الشرقاوي كتابه "محمد: رسول الحرية". وكان كل ذلك راجعاً إلى ما قدمه طه حسين بوصفه من أكبر مؤسسي العقلانية والتنوير في القرن العشرين.