عندما تعيد الفلسفة النظر في مسألة التربية ومسالكها
18-شباط-2023
ميشيل بسيل عون
تعاني المجتمعات الإنسانية، سواء التقليدية أو الحديثة، ضروباً شتى من التأزم التربوي الذي يصيب حقول التنشئة في #الأسرة وفي #المدرسة وفي منتديات الائتلاف الطوعي، أصل التأزم ناشب في إشكالية الحرية، أما السؤال الذي يؤرق المربين فيستفسر عن مقام الحرية في عملية التربية الشاملة، هل يستطيع المربي أن يجعل #التلاميذ والطلاب والناشئين يختارون تربيتهم اختياراً حراً؟
هل يمكن أن يلقن المربي الحرية من غير أن يمارسها المتلقي؟ كيف يستطيع الإنسان الفرد أن يختبر الحرية إن لم يمارسها فعلاً مُنجَزاً في التاريخ؟ هل الحرية مضمون نظري أم فعل واقعي عملي ملموس؟ علاوةً على هذه الأسئلة، يجب أن ننظر في مصائر الحرية حين يمارسها الإنسان في معترك الواقع اليومي، وذلك لكي نتدبر الاختلاف الناشئ بين الحرية في مضمونها النظري المجرد، والحرية في ممارستها الفعلية الحياتية التاريخية الملموسة.
القانون الأخلاقي المستخرج من الذات العاقلة
لا بد لنا، والحال هذه، من إعادة النظر في المفاهيم التربوية الأساسية حتى نتبين سبيل الهداية القويمة. في أصل هذه المفاهيم تكمن مقولة الحرية التي ينظر فيها الناس نظرات شتى. ومن ثم، ينبغي أن نستدل على ماهيتها ومضمونها وطبيعتها ومقامها ووظيفتها في سياق النشاط التربوي حصراً. من الضروري أن نتذكر أن الحرية غاية كل تربية، وتسويغها الثابت، ومقصدها الأخير. ذلك بأنها تمنح التربية الإنسانية معناها، إذ تجعلنا ننمي في الفرد القدرة الذاتية على القرار الحر العاقل المستنير. أعلم أن ثمة قيماً أخر ينبغي أن يعتنقها الفرد وفضائل أخر يجدر أن يتخلق بها. غير أن الحرية ما برحت الأصل والأساس والقاعدة والمعيار.
كان كانط، في بحثه الذي تناول مسألة التربية (Über Pädagogik)، يصر على القول إن الإنسان لا يصير إنساناً إلا بالتربية. بيد أن التربية عملية يضطلع بها الإنسان الناضج الذي يربي نظيره الإنسان الساعي إلى النضج. أما الإنسان الناضج، فلم يصبح ناضجاً بين ليلة وضحاها، بل أنضج ذاته بالتربية والقدوة الصالحة. في هذا السياق، أبان كانط أن مسؤولية الأهل خطيرة، إذ إنهم يربون أولادهم لكي يستطيعوا أن يتكيفوا مع ضرورات الانسلاك في العالم الراهن، على جسامة فساده وفداحة علاته. ولكن هدف التربية لا يجوز أن يقتصر على التكيف، إذ إن المطلوب من الأولاد أن يتجاوزوا هذا المستوى ويكبوا على تقويم اعوجاج العالم في المستقبل المرسوم أمامهم حتى تنشأ وضعية إنسانية أفضل وأرقى.
يعجب المرء حين يصغي إلى إرشادات كانط الدقيقة البليغة الصائبة في تربية الأطفال الذين ينبغي ألا نكسر إرادتهم كسراً إحباطياً، بل أن نهذبها تهذيباً يجعلها تقاوم إغراءات الفساد وتحرص على الانضباط في حدود مقتضيات الحياة الطبيعية. يجب على الطفل، بحسب كانط، أن يتعلم فن الطاعة قبل أن يعمد إلى فرض إرادته بالبكاء المستفيض والتهديد المبطن. منذ زمن الطفولة، ينبغي أن يدرك الأولاد أن الطاعة المستنيرة فضيلة تساعدهم في بناء شخصيتهم. لا ضير في الإكثار من الأسئلة قبل إطاعة أمر الأهل الذين يجب عليهم أن يشرحوا بالصبر والهدوء جميع مسوغات الحظر والإباحة. حين يكبر الأطفال ويبلغون سن الرشد، يدركون أن الحياة تسترشد بالمثُل العليا، لا بالممنوعات الانضباطية التعسفية. ذلك بأن الانضباط يتلاشى، في حين أن المثُل الهادية تظل ترشد وتهدي وتنير، لا سيما حين يدرك الإنسان قيمتها وصلاحها وعمقها ووجاهتها وعدالتها.
ومن ثم، يفضل كانط أن يستخرج الإنسان المثُلَ والأحكامَ والقواعدَ من صميم ذاته العاقلة. من واجبات المربين أن يزرعوا ثقافة الأخلاق في وعي الأطفال والأولاد ويبينوا لهم كيف يستقيم التمييز بين الخير والشر. إذا أراد الناس أن يرسخوا مقام الأخلاق في الاجتماع، كان عليهم أن ينبذوا القصاص التعسفي. ذلك بأن الأخلاق أسمى من إجراءات التأديب الانتقامي والرقابة الضبطية. من الضروري، والحال هذه، أن يحرص الجميع على تهذيب الطباع حتى يصبح هذا الفعل غاية التربية الأخلاقية. حقيقة الأمر أن الطباع، بحسب كانط، تعبر عن قدرة الإنسان على السلوك سلوكاً يستلهم المثل الأخلاقية العليا التي نغترفها من بيئة أسرتنا ومدرستنا، ونغترفها بعد ذلك من معين الأنظومة الأخلاقية الكونية. بما أن الطفل يألف الانصياع إلى القوانين، فإن المثل الأخلاقية تشبه القوانين، شرط أن تنبثق من صميم الذات العاقلة، فتضحي أحكاماً ذاتية تتصف بصفة الاقتناع الشخصي الملزم.
الحرية التربوية المطلقة والحرية التربوية المقيدة
يعاين المرء في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين تحولاً خطيراً في مسار التربية، لا سيما في منازل الأسر المأزومة وعلى مقاعد التعلم المدرسي المضطربة. كثير منا باتوا يعتقدون أن التربية أضحت متساهلة متراخية، بحيث أضحى واجباً السؤال عن ضرورة تعزيز سلطة المربين من أهل وأساتذة، واستعادة مبدأ القصاص التهذيبي التحفيزي البناء. غير أن التصورات الليبرالية المتفلتة المسرفة في انتقاد مقولات التقليد والسلطة والمرجعية والمثال النموذجي والموعظة الحسنة ما برحت تناهض كل ما يبدو لها، من منظورها الضيق، مساً جوهريا يصيب نفسية الطفل واليافع والشاب والتلميذ والطالب، ويعطل مكتسبات التطور التربوي الذي جعل الناس يولون مقامَ الصدارة مفاهيمَ الاتزان الكياني، والصحة الذهنية، والانتعاش النفسي.
في بعض الأنظمة الاستبدادية، تصر الأنظومة الحاكمة على تلقين الأفراد قيم الانضباط والاحترام والخضوع والفاعلية الإنتاجية والانتظامية الاجتماعية والانتمائية الجماعية القومية أو الدينية أو الأيديولوجية، في حين أن الأنظمة الديمقراطية تضع في مقام الصدارة قيمة الحرية الفردية الذاتية. غالباً ما يستهل المستبد مشروعه التسلطي بإصلاح النظام التربوي، أي بإخضاعه لتصورات الحزب الحاكم. هذا كله يعرفه القاصي والداني. لا يكون الحل إلا بمناهضة مثل الأنظمة الاستبدادية الغاشمة الظالمة هذه. غير أن المشكلة تنشأ في سياق النظام الديمقراطي عينه، إذ يحار المرء في تعيين مقام الحرية، وقد سلم الناس بصدارتها وأهميتها ومركزيتها التاريخية: هل تكون الحرية في الوقت عينه غاية التربية ومضمونها ووسيلتها؟ بعبارة أوضح، هل نربي الأفراد بحرية على قيمة الحرية حتى يصبحوا أحراراً؟ التربية بواسطة الحرية مسألة إشكالية. والتربية على اعتناق مضمون قيمة الحرية مسألة إشكالية أخرى. والتربية في سبيل بناء أفراد أحرار مسألة إشكالية أيضاً. هل ينبغي أن نجعل الطفل والمراهق والشاب ينعمون بالحرية في كل طور من هذه الأطوار حتى يستطيعوا في يوم من الأيام أن يصبحوا أحراراً؟ هل يجب أن نحرر الطفل من كل قيد أو إكراه أو نظام أو إطار حتى نضمن للبالغ أن ينعم بحريته الواعية؟ أم يجب علينا أن نربيه على الحرية بواسطة ما يخالف الحرية، أي باستخدام وسائل التطلب والضبط والإكراه البناء حتى نضمن له في المستقبل أن ينعم بالاستقلال الكياني والسيادة المعنوية على ذاته والانضباط الشخصي الاجتماعي والمواطني؟
كان الفليسوف الأمِيركي جون ديوي (1859-1952) مقتنعاً بأن التربية ليست تمهيداً إعدادياً يهيئ الطفل للاضطلاع بمسؤولية الحياة، بل سبيلاً عملياً يتيح له أن يختبر الحرية اختباراً وجودياً يلائم مستوى وعيه، ويتلقنه نهجاً حياتياً يومياً. من الواضح أن هذا التصور يروم أن يتجاوز الخلاف الفلسفي الحاد الذي نشأ بين الأديب الفيلسوف الفرنسي جان-جاك روسو (1712-1778) والفيلسوف النقدي الألماني كانط (1724-1804). كان روسو في كتابه "إميل" (Émile ou de l’éduction) يناصر مبدأ الحرية الطبيعية، ويحرض الأهل على صون حرية أطفالهم منذ نعومة أظفارهم. ذلك بأن الطفل يكتسب وعياً عظيماً حين ينمو بواسطة قدراته الذاتية، فيتعلم أن يكتشف شخصيته، ويتعرف إلى قدراته، ويستطلع مواضع اهتماماته وانجذاباته. تسهيلاً للمسار التربوي الذاتي هذا، يجب أن تتحول الحرية إلى وسيلة تربوية يستخدمها الأفراد من أجل بناء ذاتيتهم الحرة. أما كانط فكان يفرض مبدأ الانضباط، ويناصر قيمة الجهد التهذيبي الذي يبذله كل فرد من أجل تكوين شخصيته وصقلها والارتقاء بها. لذلك أتى سؤاله بليغاً: "كيف أنمي الحرية بالإكراه؟" (« Wie kultiviere ich die Freiheit bei dem Zwange ? »).
ليس التناقض بين الفيلسوفَين جذرياً، لا سيما إذا نظر المرء في الخلفية الفكرية الناظمة المنبثقة من تصور الحداثة. ذلك بأنهما كليهما ينتميان إلى عصر الأنوار، ويتشاركان في نصرة المثال التربوي الذي يتوق إلى تعزيز مقام الحرية. الفارق الوحيد أن كانط كان يرسم أن الانضباط والإكراه وسيلتان شرعيتان تسوغهما الغاية الشريفة التي تنطوي عليها عملية التربية. فاحترام القوانين، واكتساب القدرة على ضبط الذات، والإعراض عن الملذات والألعاب، وإيثار العمل الجدي والالتزام الرصين، هذا كله يهيئ الطفل لاستساغة القانون الأخلاقي والخضوع لأحكامه خضوعَ الطاعة الرضية، ويعد الفرد للاضطلاع باستقلال الإرادة الذاتية المبنية على واجب التزام القانون واحترام الآخرين بوصفهم نظرائي في البشرية. لشدة ما نعت الفلاسفة أخلاقيات كانط بالتشدد الواجبي والمثالية المجردة والتسامي النظري، أهملوا الجانب الإيجابي الآخر الذي يبسطه كانط في تصوره الأخلاقي، عنيت به الاقتصاد في التحريم الذي لا ضرورة فيه ولا جدوى منه. إذا تبين أن المنع والنهي والزجر أفعال لا تفيد إفادةً صالحةً في سياق معين من السياقات الحياتية، فإن من واجب المربي أن يترك الحرية الكاملة التي تتيح للنشء أن يبادر ويقترح من المشاريع ما لا يؤذي الآخرين أو يضر بمصالحهم الوجودية.
في مقابل التوازن الدقيق الذي أنشأه كانط بين الرقابة الصارمة والحرية المقيدة بطبيعة المبادرة، تبدو المبادئ التربوية الجريئة التي كان روسو ينادي بها على شيء من التطرف والمغامرة. ذلك بأن مراعاة النضج الذاتي في تطور طبيعة كل طفل على حدة تحول المربي إلى رقيب مفتش يتحرى ويتقصى ويحلل في روحٍ من اليقظة المتشنجة التي تترصد أبسط علامات التفتح الطارئ على وعي الطفل. يقين المربي هذا أنه يستطيع الاستدلال على العلامات البينة التي تسوغ الاستثمار التربوي الحصيف في ميدان التلقين المستمر المتواصل. حقيقة الأمر أن كلا التصورين التربويين، سواء ذلك المبني على أخلاقيات الواجب عند كانط أو ذلك المستند إلى روحية الاستنضاج الذاتي العفوي الطبيعي عند روسو، ينطوي على أخطار التطرف والإسراف في حال الإصرار على التأويل المبتور المنسلخ عن السياق الوجودي العام.
الانتقال التربوي من وضعية الإجابة إلى وضعية الإشكالية
في الكتاب الجماعي "ما نفع التربية؟" (Éduquer à quoi bon ? Ce qu’en disent philosophes, anthropologues et pédagogues)، يشارك الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) مشاركةً منيرةً، فيقترح علينا أن نفكر في أزمة التربية الناشئة من تعقد أوضاع العالم المعاصر: "يبدو لي أن مهمة المربي الحديث أن يعد الناس للدخول في العالم الإشكالي هذا". من الواضح أن السؤال التربوي في الزمن الراهن يقترن بإمكان تصور العملية التربوية في هيئة الإشكال الفلسفي العسير. ذلك بأن كل الأمور أضحت إشكاليةً في عصر العولمة، ومنها مسألة التربية المرتبطة بقضايا الحقيقة واليقين والمعيار والتقدم. ومن ثم، يسأل المرء اليوم: كيف يمكننا أن نخضع وظائفَ التربية الأساسية، لا سيما حماية الفرد وبناء وعيه وتزويده بالمعارف الضرورية وتحريره من الأوهام والضلال الأيديولوجي، لضمة من الأحكام والقواعد الواضحة؟ في حين كانت المجتمعات التقليدية تنهج للإنسان السبيل القويم المبني على الشرائع الواضحة، اكتفت الحداثة باستصدار توجيهات وتوصيات وإرشادات صورية مادية عملية نافعة. أما السؤال الفلسفي الخطير فيستفسر عن المرجعية المعيارية القانونية التشريعية التي يمكن بناؤها في العمل التربوي المعاصر.
إذا كان المجتمع التقليدي يتميز بكتم المشكلات أو السكوت عنها أو إبطالها بالقوة القاهرة، فإن المجتمع الحديث يتصف باستثارة الإشكال في جميع حقول الحياة. في القديم، هيمنت ذهنية الحلول على وعي الناس، في حين شاعت عادة الاستشكال المعرفي الحياتي الوجودي في الأزمنة المعاصرة. لا ريب في أن التغيير الحاصل أصاب تصور الذات الإنسانية في حقل التربية، إذ كفت عن أن تكون مجرد جوهر صلب أو مجموعة من الملَكات المتضامنة، فغدت أشبه بمختبر وجودي من البحث المفتوح والتطلب الأقصى. وعليه، أضحت عملية التربية أعسر وأعقد وأدق وأخطر. فالعالم سقطت حدوده، والإنسان أشكل على نفسه، والذات الفردية انقلبت إلى حقل من الحراك الاستفساري المطرد. فإذا بالتربية تضطر إلى مصاحبة التحولات الخطيرة هذه، وتنتج نماذج جديدة من القيم المعيارية الهادية التي تلائم طبيعة التغيرات الحاصلة. يحصي فلاسفة التربية بضعةً من المتطلبات التربوية هذه: انتعاش الذات الكياني، سلامية المعايشة وتدبر الاختلاف المغني، ثقافة الوعي الإنسي الرهيف، والمعرفة العلمية البينية الحريصة على تداخل الحقول وعمق الاختصاصات ورحابة التناولات المشرعة.
التحول الخطير في تعيين هوية الذات الإنسانية
لا ريب في أن إشكالية الحرية في التربية لا تنفصل عن إشكالية الهوية التي تعالجها الأنثروبولوجيا الحديثة. من الإسهامات التي أنجزها الحقل المعرفي هذا تعريف الإنسانية بواسطة المشكلات الموضوعية التي تعترض الإنسان: التوفيق بين الانتساب الطبيعي والمعاهدة (الصلات الناشطة في الأسرة وفي القبيلة)، تدبر المساحات أو الحواجز الفاصلة بين الناس (المفاضلة بين الفئات والطبقات والأمم)، تنظيم كيفيات التواصل والتبادل سواء بواسطة اللغة أو بواسطة التجارة أو حتى بواسطة الاحتراب الذي يجسد ضرباً سلبياً من التواصل الإنساني المنحرف، تعزيز طرق الإبلاغ المعلوماتي والقيمي بين الأجيال، لا سيما في المدرسة ومعاهد التنشئة. غير أن الأجوبة التي يصوغها المجتمع لا ترضي الأفراد الذين يحاولون على الدوام أن يخالفوا ما هو سائد في بيئاتهم الخاصة.
أما الأزمة الأخطر فتصيب هوية الإنسان الفرد الذي لم يعد يثق بالتربية الأهلية، ولا بالتربية المدرسية، ولا بالتنشئة المحفلية أو الحزبية أو الملعبية أو الشارعية الموازية. فإذا به يحتجب وينعزل في عالم افتراضي مصطنع يعتقد أنه التعويض الأنسب عما فقده من مرتكزات هويته التقليدية المتوارثة. ومن ثم، ينبغي أن يعمد المجتمع المعاصر إلى ملاقاة الفرد في وسط الطريق حتى يساعده في ضبط ثلاثة أفعال إنقاذية: تعيين الموقع الوجودي في الزمان والمكان اللائقين، الفوز بالوجهة أو القبلة الهادية المناسبة، استجلاء الحدود وتمييز الصواب من الضلال بالاستناد إلى الأنظومة القيمية السائدة في المجتمع الثقافي المنفتح الذي ينتمي إليه. في حال الطفل المستبد أو المراهق المتهور، يقتضي استجلاء الحدود أن يرسم الأهل والمربون حدوداً قاطعة تمنع الأذى الجسدي والضرر الحياتي. يقارن الفيلسوف الفرنسي ميشاِل سير (1930-2019) في كتابه "الثالث-المتعلم" (Le Tiers-Instruit) التهور الصبياني بالغاز الذي يسيل من غير إحكام وضبط، في حين أن اليافع المهذب المصقولَ الشخصية يعرف كيف يمسك نفسه عن الانسياب والانجراف والانهيار.
تربية التوفيق بين حقول الحياة
خلاصة القول، إن العملية التربوية تخضع للتحولات الفكرية الخطيرة التي أصابت الأزمنة الحديثة والمعاصرة. ومن أخطر هذه التحولات التبدل المربك في تصور هوية الإنسان وتدبر ارتباطاته بالعالم وبالزمن وبالآخرين. ومن ثم، لا بد من معيارية أخلاقية تربوية مستحدثة تراعي الضرورات الطبيعية، ومتطلبات المعايشة الاجتماعية السليمة، ومقتضيات الانتعاش الكيان الذاتي. لكل حقل من الحقول الاختبارية هذه أحكامه وقواعده واعتباراته المنفعية المعتمدة. لذلك ينبغي التفطن والحرص على التوفيق التناغمي بين هذه الحقول حتى لا تهيمن في وعي الطفل واليافع والمراهق والبالغ والشاب أفكار خاطئة تخلط الأولويات ببعضها بعضاً، أو تساوي بينها من غير تبصر واستيعاب. فصون ضرورات الوجود الفيزيائي الطبيعي الجسدي لا يجوز أن يناقض مراعاة متطلبات المعايشة الاجتماعية. كذلك تدبير ملذات الذات الفردية لا يبيح للإنسان أن يتعدى على حريات الآخرين وأجسادهم وممتلكاتهم. الحكمة في هذا كله تقتضي إدراك الحدود الفاصلة بين هذه الحقول، وتستلزم أيضاً النظر في الارتباطات الجدلية المفيدة الناشطة بينها.