عندما يضرم السينمائيون النار على الشاشة
13-آب-2023
هوفيك حبشيان
تجسدت النار في السينما بأشكال مختلفة. على شكل طاقة قيمة للحفاظ على الحياة كما هي الحال في "حرب النار" لجان جاك آنو، وعلى شكل كارثة كما نرى في "الجحيم الشاهق" لجون غيليرمان، الفيلم الأشهر عن حريق ينشب في برج ويلتهم البشر والحجر. وبين البحث عن النار والكارثة التي تصنعها، وظفت النار سينمائياً لأغراض لا تحصى. حيناً حضرت بصورة إيجابية لتشكل واحداً من أسس الحياة التي لا يمكن العيش من دونها، وحيناً في صورة غير مرغوب فيها، تأكل الأخضر واليابس. سواء كانت مرغوبة أو منبوذة، أصبحت النار "بطلة" سينمائية لا مثيل لها.
تناولت الشاشة الموت حرقاً، إذ أدركت منذ البداية أبعاد النار الجمالية وثقلها الميثولوجي كما في أسطورة بروميثيوس الذي سرق شعلة نار من الآلهة ليمنحها للبشر، وهي الخرافة التي يستعديها "أوبنهايمر" لكريستوفر نولان لمناسبة الحديث عن صانع القنبلة الذرية.
تحضر أفلام الحرائق إلى الذاكرة بشكل عشوائي. ليس ثمة ترتيب زمني من الممكن الاستعانة به للحديث عن تلك الأفلام من أجل كتابة هذا المقال الهادف إلى تقديم فكرة عن الحرائق في السينما. محرك بحث "غوغل" قد ينعش الذاكرة بعض الشيء، ويعيد إليها ما كان سقط منها عبر الزمن، لكنه غير كاف، إذ لا يوجد سجل كامل لحضور النار في السينما. عملية استذكار تلك الأفلام متروكة للذات والذكريات الشخصية ولأكثر اللحظات التي تركت فينا أثراً يصعب حجبه.
وقد يتصدر الذاكرة مشهد حريق من فيلم لا يحكي بالضرورة عن حرائق ولا يقدم جردة حساب عنها، أو لا يدور حولها في شكل كامل، كما هي الحال مع واحد من أروع مشاهد السينما الأميركية: اجتياح الجراد ونشوب الحريق في حقل سنابل، هذا المشهد هو من "أيام الجنة" للأميركي ترنس ماليك، وقد استثمر فيه مدير التصوير الإسباني المعلم نستور ألمندروس كل عبقريته التشكيلية (نال عنها "أوسكار" أفضل تصوير)، فيأتي المشهد الذي يبلغ طوله قرابة سبع دقائق ليربط الظاهر بالباطن والمعلن بالمسكوت عنه، أي بدواخل الشخصيات المؤججة بالأزمات. كأن الطبيعة التي يعيش هؤلاء في حضنها تنتفض فجأة! من خلال مشهد الحريق المقصود الهادف إلى إبعاد الجراد عن الحقل، يبلغ الفيلم ذروته الدرامية والجمالية، ويصبح جاهزاً ليسلك الطريق تدريجاً إلى الخاتمة، وبهذا المعنى تشكل النار نوعاً من "تحرر" لا مهرب منه. ماليك سينمائي مشهدي في الدرجة الأولى، ومشهديته تحمل عمق فلسفته، لذلك يمكن رؤية كثير من فكره في هذا المشهد، حيث يصيح سام شيبارد "اتركوها تحترق"، مع كل ما يحمل صرخته من غضب.
السماء تصبح حمراء
في "سماء حمراء" للمخرج الألماني كريستيان بتزولد واحد من أحدث الأفلام التي شاهدناها في مهرجان برلين الأخير، تشكل النيران التي تلتهم الطبيعة في سلسلة من الحرائق، مصدر وحي للكاتب الروائي الشاب ليون الذي يعاني ظاهرة الصفحة البيضاء. وليون هذا كاتب تعتريه الشكوك، فهو يعلم أن ما كتبه ليس على مستوى طموحاته، ولكن عليه تظاهر العكس وإقناع نفسه بأنه على الطريق الصحيح. يموضع بتزولد فيلمه في أجواء غير مريحة نفسياً، لكنها تولد عند ليون نضجاً يتيح له كتابة ما كان يأمل في كتابته. يحدث هذا كله وفي خلفية التطورات حرائق ستنشب في الغابة التي يقع فيها بيت الكاتب، وهي ستحدد مصير الشخصيات التي منها سيستمد إلهامه.
وكيف من الممكن أن ننسى مشهد الحريق المحوري في "ستهرق الدماء" لبول توماس أندرسون. خلال التنقيب عن النفط، تقذف الأرض الغاز، مسببة حريقاً ضخماً. نرى رجالاً يركضون في كل الاتجاهات وهم لا يفهمون كثيراً مما يحدث، وهذه أيضاً حال المشاهد. يصور أندرسون هذه اللحظة كنجاة ومحنة في آن واحد، على رغم كارثية المشهد الذي يغرق كل شيء في الرعب والسواد. هناك ما قبل هذا القذف وما بعده في الفيلم. ثمة من رأى في هذا المشهد الأبوكاليبتي صراعاً بين الرأسمالية والطبيعة، وهذا دليل إضافي على قدرة النيران على استيعاب هذا القدر من التأويلات.
ليست كل نار في السينما عبثاً ومصيبة. ثمة نيران صديقة وهي تبدو متعاونة مع البطل أو البطلة. من الأمثلة التي تخطر في البال عند الحديث عن النيران المتواطئة: "كاري" لبراين دبالما. ففي المشهد الشهير حين ينصب فخاً للفتاة المسكينة تشعل هذه الأخيرة النيران انتقاماً من الناس الذين سخروا منها، ومن المجتمع ومن ظروف حياتها ككل. تساعدها النيران المشتعلة في أرجاء النادي الليلي في الهيمنة على المشهد، والخروج من المكان بكرامتها، حيث إن الباب يفتح أمامها بلا أي جهد، قبل أن نرى رجال الإطفاء وهم يهرعون إلى المكان، هذا أحد الاستخدامات العديدة للنيران في السينما، وكان لدبالما عبقرية أن يخمد الحدث بها، بدلاً من إشعاله.
في "ستأتي النيران" للإسباني الفرنسي أوليفر لاكس، ثمة قصة كلاسيكية لحرائق الأحراش من مثل التي شهدتها اليونان أخيراً، ولكن يحولها لاكس إلى عمل ينتصر للبيئة. وإذا كانت هناك شبهات تحوم حول حرائق اليونان، فنحن في فيلم لاكس إزاء شخص يفتعل الحرائق قصداً في الغابات، قبل أن يلقى القبض عليه وزجه في السجن. عند خروجه منه، وعلى رغم أنه أصبح غير مرغوب فيه، يعود إلى قريته الواقعة في الجبال، حيث تقطن أمه مع بقراتها الثلاث. حياة في منتهى التناغم مع الطبيعة في انتظاره، حتى اليوم الذي ستنشب فيه حرائق تحول المنطقة إلى رماد. يفتتح الفيلم بمشهد ليلي لغابة تقع أشجارها واحدة تلو أخرى، ممهداً لنوعية العلاقة التي ستنشأ بين الطبيعة والناس الذين يعيشون تحت تهديد متواصل للحرائق. يضع الفيلم الطبيعة التواقة إلى الثأر في مواجهة الإنسان. الفيلم يقدم أيضاً صورة دقيقة لحرائق الغابات، حد أنه يمكن الاعتقاد أن المشاهد تخرج من فيلم وثائقي.
"احتراق" للكوري الجنوبي لي تشانغ دونغ المقتبس من قصة قصيرة لهاروكي موراكامي، هو الآخر، كما يشير إليه العنوان، ينطوي على مشهد حريق لا يمكن نسيانه، لكن لا يمكن كشف التفاصيل كي لا "نحرق" الأحداث. يصعد مفعول الدراما إلى الحنجرة خلال المشاهدة، لنشعر باختناق كلما اقترب الفيلم إلى خاتمته. وهذا الاختناق هو الذي يقود الشخصيات إلى حتفها. يختار المخرج التضليل المريب، واضعاً هذا العالم كله فوق نار خفيفة ستأكل كل شيء، تاركة رائحة حريق تملأ الرئتين.
هناك حكايتان أفلمتهما السينما، حين تلعب النار دور الشر المطلق: "آلام جان دارك" للدنماركي كارل دراير، إذ نرى عذراء أورليان تحرق، لكن الصورة بالأسود والأبيض تخفف من هول الحريق، خصوصاً أن دراير يفضل التركيز على وجه ممثلته رينه فالكونيتي، فنرى بالأحرى الدخان المتصاعد. أما الحكاية الأخرى فهي تلك التي اقتبسها الفرنسي فرنسوا تروفو في فيلمه الشهير "فاهرنهايت 451" الذي تجري أحداثه في مجتمع توتاليتاري يعتبر المعرفة خطراً. ويقتصر عمل أحد رجال الإطفاء على البحث عن الكتب وحرقها.
وكم بديعة تلك المشهدية التي يقدمها المخرج الصربي إمير كوستوريتسا من خلال المزج بين الماء والنار في رائعته "زمن الغجر"، إذ إن الناس الذين يصورهم يمارسون أحد الطقوس على ضفاف نهر عند الشفق، على خلفية أغنية "ادرليزي". يجتاح اللون الأحمر السماء، نتيجة انتشار النار في كل مكان، إنها النار في واحد من أقدم استخداماتها، بدءاً من الوثنيين.
أخيراً، لا يمكن الحديث عن النار في السينما من دون ذكر خاتمة "القربان" للروسي أندره تاركوفسكي: البيت الذي يحترق وسط الطبيعة في لقطة طويلة، والسيدة التي تحاول الاقتراب من البيت قبل أن تقع أرضاً، عاجزة منهارة، فينهار البيت كله بعد أن تأكله النيران. إنها واحدة من أبهى اللحظات التي رسمت على الشاشة، أهداها شاعر السينما إلى العالم قبل رحيله.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech