فيلم أوبنهايمر: جدل حول القنبلة النووية وصانعها
14-آب-2023
زيد خلدون جميل
متعجرف وأناني وطموح بإفراط ويتحرش بالنساء ومغرم بالاستعراض ويتعرض لنوبات الاكتئاب، لكنه العالم الأبرز الذي ترك بصمته على التاريخ الأمريكي. إنه جَي روبرت أوبنهايمر J. Robert Oppenheimer الذي يسمى أب القنبلة النووية الأمريكية. وقد عاد اسمه إلى الأضواء مؤخرا بشكل غير مسبوق بسبب فيلم أوبنهايمر Oppenheimer الذي بدأ عرضه في 20 تموز/ يوليو من هذه السنة، وصاحبته حملة إعلامية أقل ما يقال عنها أنها غير معهودة حتى إنها أعادت الاهتمام العالمي بحقبة تاريخية بالغة الأهمية في التاريخ. وقد مثّل الدور الرئيسي الممثل الأيرلندي كيليان مرفي Cillian Murphy، وشاركه في الفيلم مجموعة من خيرة النجوم السينمائيين لاسيما مات دَيمن Matt Damen. أما المخرج فهو كريستوفر نولن Christopher Nolen الذي سبق أن أخرج عدة أفلام شهيرة.
الأحداث
تبدأ أحداث الفيلم عام 1926 في جامعة كامبريدج عندما كان طالب الدكتوراه أوبنهايمر يعاني من عدم قدرته على النجاح في دروس المختبر تحت إشراف العالم البريطاني الشهير باتريك بلاكيت. ويحاول أوبنهايمر قتل العالم الشهير بالسم، إلا أنه يوقف المحاولة في اللحظة الأخيرة، عندما كاد عالم شهير آخر أن يتناول السم بالخطأ. وينتقل الطالب إلى جامعة جوتنجن الألمانية حيث يلتقي هناك بالعالم الألماني هايزنبرغ وينال الدكتوراه. وينتقل أوبنهايمر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يدرس مادة فيزياء الكم في بعض أشهر جامعاتها. وفي هذه الأثناء يبدأ علاقة غرامية مع طبيبة شيوعية تنتحر بعد ذلك، ثم يلتقي بشيوعية سابقة تدعى كاثرين بروننغ ويتزوجها.
أثناء الحرب العالمية الثانية تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتأسيس مشروع مانهاتن لبناء القنبلة النووية وتعين العميد ليزلي غروفز مديرا له. ويقوم العميد بدوره بالطلب من أوبنهايمر بجمع العلماء اللازمين، بعد أن يؤكد له أن لا علاقة له بالشيوعيين، وأنه ضد النازيين. وبعد جمع العلماء يكتشف أحدهم أنه من الناحية النظرية هنالك احتمال ضئيل جدا لقيام تفجير القنبلة بسلسلة من التفاعلات التي تؤدي إلى تدمير جو الأرض، فيناقش أوبنهايمر الأمر مع آينشتاين، ويفاجأ باحتمال وجود جاسوس سوفييتي في المشروع. وأثناء نقاشه مع بقية العلماء حول أحد جوانب القنبلة، يلاحظ أن العالم أدوارد تيلر لم يكن منتبها، فيسأله إن كان يجد النقاش مملا. ويجيب تيلر أنه من الأفضل دمج النوى عوضا عن شطرها، ويضحك الحضور. ويسمع أوبنهايمر بانتحار عشيقته الشيوعية السابقة مما يثير استياءه.
تستسلم ألمانيا في الحرب ويشكك البعض في أهمية القنبلة النووية، لكن التجربة الأولى تتم في صحراء نيومكسيكو، وتقرر الولايات المتحدة الأمريكية ضرب اليابان بالقنبلة، فيجتمع المسؤولون مع وزير الدفاع الأمريكي لتحديد قائمة الأهداف في اليابان. ويطلب الوزير حذف مدينة كيوتو اليابانية من القائمة، معللا أنها مركز ثقافي وديني مهم بالنسبة لليابانيين، كما أنه يعرف المدينة حيث قضى فيها شهر العسل مع زوجته فيها ووجداها جميلة جدا. وتقصف الولايات المتحدة الأمريكية مدينتي هيروشيما وناغازاكي. ويحتفل معظم العلماء احتفالا كبيرا، لاسيما أوبنهايمر الذي يعبر عن أسفه ان القنبلة لم تلقَ على المانيا، ويتحول إلى أشهر شخصية إعلامية ويطلق عليه لقب أب القنبلة النووية.
يعين أوبنهايمر رئيس المجلس الاستشاري للجنة الطاقة الذرية ورئيسا لمركز أبحاث في ستانفرد. ويزداد التحدي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، حيث يقوم كل منهما بتطوير السلاح النووي. ويعبر أوبنهايمر عن معارضته للسباق النووي، ويعمل ضد أبحاث القنبلة الهيدروجينية التي كان يقودها زميله السابق أدوارد تيلر. لكنه كذلك يثير غضب رئيس لجنة الطاقة الذرية لويس ستراوس (روبرت داوني جونير) الذي يقرر أن يحاربه بعد أن يحصل خلاف في الرأي بينهما. وفي عام 1954 تستدعي لجنة تحقيق تابعة للجنة الطاقة الذرية أوبنهايمر للتحقيق حول صلاته بالشيوعيين ويشهد لويس ستراوس وأدوارد تيلر ضده، ما يؤدي إلى سحب الترخيص الأمني الذي يسمح له بالأطلاع على الوثائق المهمة حول الأبحاث النووية. وفي عام 1959 يرشح الرئيس الأمريكي آيزنهاور رئيس لجنة الطاقة النووية لويس ستراوس لمنصب وزير التجارة، لكن مجلس الشيوخ الأمريكي يرفض الترشيح عندما يقوم أحد زملاء أوبنهايمر بفضح مؤامرة ستراوس ضد أوبنهايمر. يقوم الرئيس الأمريكي لندن جونسون بمنح أوبنهايمر جائزة أنريكوفيرمي، مما يعزز مكانته. وفي هذه الأثناء يفكر أوبنهايمر مليا إذا كان قد سبب سلسلة من الأحداث ستؤدي إلى نهاية نووية للعالم. وينتهي الفيلم هنا.
تحليل الفيلم
لم يكن الفيلم في الحقيقة عن أوبنهايمر فحسب، بل كذلك عن إنتاج أول قنبلة نووية في التاريخ ودور السلاح النووي في صياغة السياسة العالمية. نجح المخرج في جعل الفيلم وثائقيا في مظهره دون التقليل من الدرجة العالية من التشويق التي ميزته بشخصياته المأخوذة من شخصيات حقيقية لعبت دورا مهما في أحد أهم الأحداث في التاريخ. لكن على المشاهد توخي الحذر، فالفيلم في الحقيقة ليس تاريخا، بل هو عمل سينمائي. وامتاز الفيلم بعدد نجومه السينمائيين الكبار، الذين ظهروا لفترات قصيرة جدا، مما يثير التساؤل، فمثلا لم يقل جوش هارتنيت سوى بضع كلمات، وكذلك رامي مالك وجاري أولدمان وكنيث براغان.
كان أداء الممثلين لأدوارهم بارعا، لاسيما الممثل الرئيسي كيليان مرفي Cillian Murphy. وقد يكون من أسباب اختياره لدور أوبنهايمر عيناه الزرقاوان الثاقبتان. وقد فقد كيليان مرفي الكثير من الوزن كي يبدو شبيها بأوبنهايمر الحقيقي، وكان الوحيد في الفيلم الذي ارتدى قبعة في أغلب المشاهد حيث لم يسمح لأي ممثل بارتداء القبعة لجعل الشخصية الرئيسية في الفيلم، أي أوبنهايمر، أكثر تميزا، لأن أوبنهايمر الحقيقي كان دائما ما يرتدي القبعة، وكذلك كان يرتدي قميصا أزرق ويدخن السيجارة المستمر.
حاول المخرج كسب تعاطف المشاهد مع شخصيات الفيلم، بأدبهم ورقتهم الواضحين، واختيار ممثلين عرفوأ بأشكالهم الوسيمة والطيبة، لاسيما مات دَيمن في دور العميد ليزلي غروفز، وأميلي بلنت في دور زوجة أوبنهايمر وجاري أولدمان في دور الرئيس ترومان. ولذلك، فإن المشاهد كان يشعر بالراحة عند مشاهدته لشخصيات الفيلم ويؤيد المشاعر والأفكار التي أظهروها في الفيلم. على الرغم من أن الفيلم حاول جعل المشاهد يتعاطف مع أوبنهايمر وحوله إلى شخصية أسطورية، فقد أخطأ المخرج في إظهار محاولة أوبنهايمر تسميم أستاذه، فالمرء لا يستطيع التعاطف مع شخص حاول قتل أستاذه في الجامعة لأنه كان يدرس مادة لم تعجب الطالب، على الرغم من أهميتها. لكن هل القصة حقيقية؟ فإذا كانت كذلك لحوكم أوبنهايمر بتهمة الشروع بالقتل. لكن الكثيرين يؤكدون أن الحكاية خيالية تماما، كما لم يعثر على أي ذكر لها في سجلات جامعة كامبريدج. وإذا كان المخرج قد وضع هذه الحكاية لإثارة المشاهد، فإنه في الوقت نفسه يبين أن بطله شخصا مضطربا وأهوج، وهما ليستا من الصفات المحبوبة بالتأكيد. يبين الفيلم كذلك علاقة أوبنهايمر بامرأتين أثناء زواجه، وكانت إحداهما زوجة زميل له في مشروع القنبلة النووية، وبمعرفة زوجته، وهذه تصرفات شخص لا يأبه بمشاعر الآخرين مهما كانت العواقب.
اعتمد الفيلم على فكرة تناقضات شخصية أوبنهايمر، فتارة نجده متحمسا للقنبلة النووية وتارة معارضا للسلاح النووي والصناعة العسكرية. لكن دراسة متعمقة لتاريخ العالم الشهير تبين إمكانية عدم وجود أي تناقض، إذ كانت مشكلته نرجسيته وحبه للظهور، فبعد أن ترك التدريس الجامعي للتفرغ لمشروع القنبلة النووية شعر بأنه شخص بالغ الأهمية، حيث وجد نفسه زعيما لأشهر علماء الولايات المتحدة، ومديرا للمشروع الأهم في البلاد. وبعد نجاح أول تجربة لتفجير القنبلة النووية ونجاح القنبلة في تفجيرها في اليابان عام 1945 وانتصار الولايات المتحدة، تحول أوبنهايمر إلى نجم سينمائي حيث نُشِرَت صورته على غلاف كل مجلة شهيرة كأب القنبلة النووية. وبذلك تحول إلى بطل شعبي وجزء من التاريخ الأمريكي. وأثر كل هذا في شخصيته حيث لم يستطع العودة إلى التدريس، وأراد أن يكون مرجعية سياسية وجزءا من آلية اتخاذ القرارات السياسية. ويدل هذا أن أمراضه النفسية أثرت في حكمة قراراته، أما معارضته للقنبلة الهيدروجينية، فقد يكون السبب أن الحكومة الأمريكية أعطت برنامج صناعة هذه القنبلة لعالم آخر، فلم يستطع أوبنهايمر تحمل المنافسة، وبالنسبة لمعارضته للسلاح النووي (وصفه بأنه سلاح عدواني) والصناعة العسكرية (وصفها بأنها عمل الشيطان) فلم تكن سوى حبه للظهور بمظهر الفيلسوف ذي المبادئ السامية. لكن الحقيقة أنه ربما لم يكن ذا مبادئ سامية، بل كان شخصا يحاول استعمال كل خدعة ممكنة للبروز في مجتمعه، فحب الاستعراض والنرجسية سيطرا عليه.
وإذا ظهر في الفيلم أن أوبنهايمر كان ضد السلاح النووي، فإن الوقائع التاريخية تثبت عكس ذلك، إذ أنه كان شديد الحماس لتولي منصبه في إدارة المشروع وجديته الحقيقية لإنجاحه، وأخيرا فرحه الشديد عند استعمال القنبلة في الحرب. ويظهر الفيلم أن أوبنهايمر انبهر بمنظر انفجار القنبلة النووية، وعرف أن التاريخ قد تغير إلى الأبد.
الخلفية التاريخية
قصة الفيلم مقتبسة من كتاب بعنوان «بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة جَي روبرت أوبنهايمر» American Prometheus: The Triumph and Tragedie of J. Robert Oppenheimer. وبرميثيوس، حسب الأساطير اليونانية القديمة، إله يسرق النار من بقية الآلهة ويعطيها للإنسان على شكل علوم وحضارة. وقد نشر الكتاب عام 2005 وقد نال هذا الكتاب جازة بوليتزر الشهيرة في العام التالي. ومن الواضح أن عنوان الكتاب يعبر عن فكرة إعطاء أوبنهايمر العلم والمعرفة للبشرية. ولا يمكن تجاهل كونه عالما كبيرا، لكن السبب الوحيد لشهرته، كان ترؤسه لبرنامج صناعة القنبلة النووية، فاكتشافاته العلمية لم تكن بهذه الكثرة. وقد أثير التساؤل حول سبب اختياره لذلك المنصب، إذ أنه لم يكن العالم الأكثر شهرة ولم يحصل على جائزة نوبل ولم تكن له أي خبرة في إدارة مشاريع كبيرة، لكنه كان أمريكي المولد (كان الكثيرون من العلماء في المشروع مهاجرين أجانب) ووصفه الجميع أنه كان يعرف كيف يبهر الآخرين في مناقشاته.
وقد يكون هناك سبب آخر لتعيينه مديرا للمشروع، لم يظهر في الفيلم، وهو أن الحكومة الأمريكية كانت قد كلفت فريقا من العلماء برئاسة أوبنهايمر لأعداد دراسة مبدئية حول إمكانية صناعة القنبلة النووية قبل المشروع، لكن هنالك شيئا آخر يثير الاهتمام، وهو مخالطة أوبنهايمر للشيوعيين بشكل واضح، وعدم تأثره بذلك، إلا في نهاية حياته المهنية بعض الشيء. وكانت زوجته عضوا سابقة في الحزب الشيوعي. أما عشيقته التي انتحرت، فكانت عضوا في الحزب. وهذا في الوقت الذي كانت لجنة التحقيقات التابعة لمجلس النواب الأمريكي تجري التحقيقات العلنية مع الكثيرين من الذين عرفوا بعلاقاتهم المختلفة مع الفكر الشيوعي، ما أدى إلى معاقبة بعضهم، حيث فقدوا أعمالهم، واضطر آخرون لمغادرة البلاد. لكن هذه اللجنة لم تستطع استدعاء أوبنهايمر، حيث أبلغت أن لجنة الطاقة الذرية تقوم بذلك، وكان تحقيق لجنة الطاقة الذرية مختلفا تماما، لأنه تم بناء على رغبة أوبنهايمر بعد أن استلم خبر ألغاء تصريحه الأمني، ولم يكن علنيا ولم تتعرض سمعته للأذى، لكن دوره في صناعة القرار الحكومي انتهى. وكان هذا السبب الحقيقي لذلك التحقيق، حيث كان أوبنهايمر يعتبر نفسه ليس عالما فحسب، بل شخصية سياسية ومثقفا كبيرا، ما أعطاه الانطباع بأنه أفضل من الطبقة السياسية الأمريكية، لكن هذا التحقيق أعاده إلى حجمه الحقيقي. واستمر أوبنهايمر في عمله مديرا لمركز أبحاث في ستانفرد، ولم تتعرض سمعته للضرر.
وإذا ظهر في الفيلم أن أوبنهايمر كان ضد السلاح النووي، فإن الوقائع التاريخية تثبت عكس ذلك، إذ أنه كان شديد الحماس لتولي منصبه في إدارة المشروع وجديته الحقيقية لإنجاحه، وأخيرا فرحه الشديد عند استعمال القنبلة في الحرب. ويظهر الفيلم أن أوبنهايمر انبهر بمنظر انفجار القنبلة النووية، وعرف أن التاريخ قد تغير إلى الأبد. أما ما قاله في تلك اللحظة «أنا أصبحت الموت ومدمر العالم» فقد أدعى بعد ذلك بسنوات بأنه قال ذلك، وربما كان ذلك جزءا من حبه للاستعراض. على عكس ما ظهر في الفيلم، فإن الشخصيات الحقيقية لم تكن بالوسامة أو الرقة التي ظهرت بها في الفيلم، بل كانوا أشخاصا يحاولون جهدهم البروز في منافسة قاسية بينهم، فمثلا عوقب العميد ليزلي غروفز من قبل رئيس الأركان الأمريكي لسوء أدبه. وكان الاستثناء الوحيد في الفيلم الممثل روبرت داوني جونير، لأنه كان كان يؤدي دور شخصية لويس ستراوس العدوانية الذي ربما لم يكن قاسيا مع أوبنهايمر لأسباب شخصية فقط.
الجانب الهندي
أثار اعتراض المعلقين الهنود الدهشة عندما احتجوا على قراءة أوبنهايمر (كيليان مرفي) لنص باللغة الهندية في مشهد جنسي مع عشيقته (فلورنس بيو) حيث اعتبروا ذلك إهانة للثقافة الهندية.