كيف جعل الشعراء السجون مختبرات للأغنية السياسية؟
26-نيسان-2023
أشرف الحساني
كبقية المؤسسات الرسمية يعتبر السجن مؤسسة قانونية تدين الناس على ما فعلوه داخل فضاءاتهم العمومية، على رغم أن الإدانة بالسجن أحياناً قد تكون تعسفاً بحق أبرياء.
هذا التعسف المفرط نجده عند مختلف العاملين في حقل الكتابة والإعلام والسينما والموسيقى والغناء، إذ تعمل الدولة بمختلف سلطها على وضع المبدعين الذين يغردون بعيداً، بل إن مرحلة سبعينيات القرن الـ20 بالعالم العربي شهدت نمواً في ظاهرة السجن، إذ أصبح الكل يقتاد صوب الزنازين المظلمة لسجنهم وسلب حريتهم وتعذيبهم بسبب حساسية كلماتهم وارتفاع منسوب النقد فيها. ولم تخل السجون العربية من المثقفين والفنانين والعاملين في الحقل الثقافي. فقد كانت الدولة منذ تنامي الحركات الاشتراكية والشيوعية وانغماسها في الوجدان الاجتماعي العربي، تعمد إلى فتح السجون للمثقفين والعمل على إعطاء العبرة لغيرهم بسجنهم وتعذيبهم وتمريغ كرامتهم أمام الرأي العالمي.
وعلى رغم أن الدولة في ديباجتها القانونية ظلت تعتبر أن السجن هو "طريقة لاحتجاز شخص بموجب حكم قضائي أو قرار إداري من سلطة تستند إما إلى قانون ينص على عقاب الشخص لكونه ارتكب جريمة أو لمجرد قرار تقديري من سلطة مخولة باحتجاز الأشخاص كإجراء وقائي"، فإن أهل الثقافة والفن لطالما اعتبروا أن السجن مجرد وسيلة قهرية لتكميم الأفواه وسياسة زجرية للحد من سلطة الكلمة بمختلف تعبيراتها الفنية. والدليل أن هؤلاء الفنانين دائماً ما كانوا يمنعون من كتابة أشعارهم وأغانيهم داخل الزنزانة خوفاً من أي فضح أو رقابة دولية خارجية.
ويقول الكاتب الروسي فلادمير بوكوفسكي إن "تاريخ البشرية عرف عشرات الملايين من الناس دخلوا السجن وعشرات الآلاف منهم الذين كتبوا ارتساماتهم عن هذه التجربة. لكن كل هذا لم يكن كافياً لإطفاء عطش الإنسانية، ولم يقلص من الاهتمام البالغ والمستمر الذي يثيره موضوع الأسر. ذلك أن الإنسان منذ أقدم العصور تعود على اعتبار الموت والجنون والسجن من أشد المظاهر هولاً. إننا نستهوي ما يرعبنا وننجذب إليه كما هو الشأن بالنسبة إلى كل ما هو مجهول. نعم لو رجع الآن شخص مات من الآخرة، فمن المحتمل أنه سيقتل من جديد لفرط الأسئلة التي ستوضع عليه".
لقد ظل السجن الأداة الوحيدة في يد السلطة لإدانة الفنانين وتقليص حدود إبداعهم، لذا عاش الفنانون والشعراء أوجاعاً عسيرة ومخاضات أليمة في زنازينهم، لكنهم كتبوا أجمل الأشعار والألحان والأغنيات. فمن كان يتخيل أن تنسرب تلك الكلمات من تحت الأبواب وتخترق بعذاباتها جدران السجن وتحلق عالياً في ليل الشعوب العربية، وهم يرددونها في المساءات الباردة بسبب ارتفاع حدة السلطة والتسلط؟ لهذا وجدت السلطة في وسيلة السجن طريقة غير ناجعة لاحتواء سلطة الكلمة التي ستتحول إلى شعر ثم في ما بعد إلى أغنية، سوى أنها تنقل الفنانين والكتاب من السجون إلى معتقلات مزمنة في أمكنة نائية. ومع ذلك كانت الكلمات تصل إلى هناك، لتذكر الشعوب بأصالة مواقفها وجرح قضاياها.

الفن في مقابل الأيديولوجيا
لعب السياق التاريخي الجريح الذي عرفته البلدان العربية في تأجيج ظاهرة التسلط على الشعراء والمغنين، ذلك أن ارتفاع المدين الاشتراكي والشيوعي في البلاد العربية جعل الناس تؤمن بقيمة الأيديولوجيا في علاقتها بالأغنية، بحكم ما تتيحه للممارسة الغنائية من سحر قوي يساهم في تأزيم عمل السلطة وذيوع مظاهر التحديث والحداثة، لهذا أصبحت الأيديولوجيا موجهاً أساسياً بالنسبة إلى الشعر ومعه الأغنية العربية ككل. ففي كل قطر عربي تصاعدت حدة الشعر السياسي ومعه رغبة الانعتاق من الأسر الذي خيم على الشعوب العربية، وقادها إلى ثورات دموية وتظاهرات طاحنة.
لكن حين نستعيد اليوم تراث الأغنية السياسية داخل البلاد المغاربية أو العربية، لا نعثر على أي نوع من الامتداد داخل الزمن. قد يعتبر بعضهم أن الزمن الراهن، لم يعد بحاجة إلى كتابة أغان سياسية تنتقد الوضع القائم. غير أن كل الفنون التي راهنت في ديباجتها الجمالية على مفهوم الأيديولوجيا سرعان ما تنتهي، بل تبقى مجرد أغان في تاريخ الفن. إن الفن الحقيقي هو الذي ينطلق من الذات ويحاول في تشكلاته الفنية أن يلتحم بوجدان الناس، ويصوغ بعد ذلك أفقاً رحباً يصبح فيه كونياً. ليست كل أغنية أيديولوجية من الممكن أن تكون مميزة ذات تأثير فعلي في الجماهير. إذ ثمة أغان سرعان ما تنتهي بمجرد الخروج الناس من التظاهرات والاحتجاجات.
يقول الكاتب أحمد برقاوي إن "الفن الذي يصدر عن وظيفة أيديولوجية سرعان ما يتبخر مع الزمن بعد أن يؤدي وظيفته هذه وتنتهي الواقعة التي أنتجته. فلا أحد الآن يعود إلى تلك الأغاني الأيديولوجية لأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ التي جاءت في المرحلة الناصرية، اللهم إلا عند بقايا الجيل الذي عاصر تلك المرحلة، لأن الواقعة نفسها التي ولدت تلك الأغاني قد انتهت. فيما أغاني الحب التي شدوا بها ما زالت حاضرة وتستمع إليها الأجيال الجديدة، وآية ذلك أن تجربة الذوق الموسيقي والحب لا تبلى. وهذا يعني بأن هناك موقفين يجب ألا نقع فيهما: الموقف الأيديولوجي من الإبداع الفني من جهة، وتوظيف الفن أيديولوجياً من جهة ثانية".

هشاشة الأغاني
لم تبلور الأغنية السياسية العربية أي أفق موسيقي لها. وهذا الأمر يجعلها اليوم أشبه بـالـ "أناشيد" الشعرية الخالية من الاشتغال الموسيقي. بل حتى الموسيقيين العرب المعاصرين، لم يعملوا على بلورة هذه الأغاني وإعادة تأليفها والاشتغال عليها موسيقياً، حتى تبقى في الذاكرة الجمعية بوصفها وثائق تاريخية وشواهد مسموعة تؤرخ لمسارات مهمة من تحولات المجتمع العربي. وعلى رغم أن عملية التحويل من الشعر إلى الأغنية كان ممن الممكن على الأقل أن تخفف النص الشعري وأيديولوجيته، وتتجه به صوب مناخات أكثر جمالاً عن طريق الموسيقى. فإن ذلك لم يحدث أصلاً، بل تم العمل والاقتداء بسلطة النص الشعري، من دون جعله يدخل مختبر الموسيقى الحديثة.
إن حدود التقاطع والتلاقي بين الشعر والأغنية السياسية تكاد تكون منعدمة، فالعمل الفني من دون مؤثرات جمالية يصبح مجرد خطاب تقريري لا يمت للفن بصلة. وهذا المشكل عانت منه القصائد السبعينية الأولى، إذ حكم عليها بالسقوط المهول في الأيديولوجيا، لكن حينما جاءت مرحلة تحويل هذه النصوص إلى أغان عربية، لم ينتبه الفنانون مجدداً إلى ضرورة الانتقال بالنص من الأيديولوجيا إلى الصناعة الجمالية. من ثم فإن ذلك قد يكون أحد العوامل الرئيسة في غياب الأغنية السياسية اليوم وتدهورها وعدم نضجها ووجودها على سطح الساحة الغنائية، كما الحال إبان سبعينيات القرن الماضي.
تقول الكاتبة السورية سماح ميا "يفتقد كثير من فناني هذه الأيام، الفهم الحقيقي لدورهم كفنانين، الدور الذي لا ينفصل بالضرورة عن كونهم جزءاً لا يتجزأ من مجتمعات تمزقها الحروب والأزمات. وتعبير الفنان عن موقف متقدم أو مواز لما يجري في محيطه، هو الذي يجعل ذلك الفن يبقى في الذاكرة، لأنه ببساطة يؤرشف لتلك اللحظة التاريخية شعورياً. من هنا تكون قراءتك لرواية عن الحرب العالمية الثانية مثلاً تجربة أقوى بكثير من قراءة كتاب يوثق لتلك المرحلة التاريخية ذاتها، لأن الشاعر أو الروائي يمتلك قدرة أكبر على التقاط تلك اللحظات الحساسة والتجارب الذاتية في مسيرة شعب ما. إنه يضعك في مواجهة مع حكايات بشر -لا مجرد أرقام- تستحق أن تروى".
من الشعر إلى الأغنية
لا يمكن النظر إلى الأغنية السياسية بمنأى عن الشعر العربي. فهذا الجنس الأدبي الذي يصنفون نماذجه داخل "أدب السجون" كان بمثابة وقود للأغنية السياسية. ومع بدء الثمانينيات لم تخرج أغاني السجون عن طابع التأليف الشعري، بمعنى أن النصوص كتبت كشعر وليست للغناء. صحيح أن بعض القصائد كانت تمتلك نفساً غنائياً قوياً سهل عملية نقلها إلى فن الغناء، لكن بقيت نماذج أخرى كثيرة تعاني عسراً فنياً في عملية التحويل.
وفي مرحلة متقدمة أصبحت السجون مختبراً للأغنية السياسية، بل نجزم أن هذه المؤسسة القمعية صارت بمثابة موضة للفنان وشرطاً أساسياً للأغنية حتى تنجح. ناهيك عن القدرة التحررية التي اضطلعت بها هذه الأشعار وقدرتها على التعبير على ما كان يشهده المجتمع من تحولات سياسية واجتماعية، فأدب الأسر أو السجون راكم منجزاً شعرياً قوياً لا يمكن نسيانه أو الادعاء بعدم نجاعته. وإذا كان شعر السجون لم يعرف طريقه صوب الأغنية، فذلك يعود إلى عمق طرحه ومنطلقاته الفلسفية ودلالته الرمزية التي يصعب على المغني أو الفنان فهمها وتلحينها ووضعها داخل قالب موسيقي يليق بها. وإلى حدود اليوم لا نعثر على أية عودة إلى هذا الشعر، بل تم نسيانه من التداول الثقافي، بخاصة على مستوى التفاعل معه داخل نماذج من التعبير الغنائي أو التوليف الموسيقي.
حين نعود إلى أغاني كل من الشيخ إمام وفؤاد نجم تتأصل تجربة الأغنية السياسية السجنية، لتعلن في وقت مبكر بعد هزيمة 1967 ميلاد حركة جديدة في فن الغناء. فقد استطاعا معاً إنتاج عدد من الأغاني التي أصبحت في وقت قصير بمثابة أيقونات فنية تغنى في العالم العربي ككل. إذ يستحيل عدم العثور على كاسيتات الثنائي ومدى حرص التجمعات والأحزاب والمنظمات ذات التوجه اليساري على الاستماع إلى أغانيهما كنوع من القوة الوجدانية التي تمنحهم طاقة لا تقهر. وبحكم هذا السبق التاريخي بقيت التجربة المصرية رائدة في مجال الأغنية السياسية، إذ تضمر في طياتها بعداً رمزياً له علاقة بالتحولات التي ألمت بمفهوم العروبة. مع العلم أن الأغنية السجنية المصرية تراجعت هي الأخرى وحلت مكانها نماذج أخرى من الموسيقى المعاصرة المستلهمة من الغرب، كما الحال ببقية بلدان العالم العربي مثل الراب. لا يتوفر المغرب على تجربة الأغنية السياسية باستثناء ما كان يكتب ويؤلف في مصر وسورية والعراق. فكانت هذه الأغاني تصل إلى مغرب السبعينيات وتلقى نجاحاً كبيراً داخل المجتمع. وعلى رغم أن البلد عرف آلاف الاعتقالات التي أفرزت نصوصاً مذهلة في مجالات مختلفة تتعلق بالشعر والرواية والمسرح، إلا أنه لم يحقق أية طفرة في الأغنية السياسية التي بقيت مجرد صدى لما يدور في بعض العواصم مثل القاهرة وبغداد وبيروت.
لكن ثمة وعياً جمالياً بدأ يتحقق منذ بداية التسعينيات. بحيث بدأت تطالعنا أغان ذات نفحة سياسية لكن لا علاقة لها بالشعر. بل إن هذه الأغاني كانت عبارة عن صدى لما يدور في الواقع المغربي والمغاربي على المستويين السياسي والاجتماعي، فاعتبرت أغاني الراي النموذج الأمثل لتكريس هذا النموذج الغنائي المذهل الذي ما تزال أغانيه تغنى حتى اليوم.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech