لماذا بقيت «عربة اسمها رغبة» لتنيسي وليامز مسرحيته
12-أيلول-2023
إبراهيم العريس
عجيب أمر تلك المسرحية التي ظهرت ذات يوم كالفطر الصحراوي في عمل الكاتب الأميركي تنيسي وليامز. عجيب أمرها إذ أتت ربما في ركاب مسرحية أخرى له كانت أوصلته إلى ذرى مجد الكتابة للخشبة بحيث تساءل كثر يومها عما إذا سيكون في مقدور الكاتب أن يتجاوز ذاته بعد تلك المسرحية الأخرى، "الحيوانات الزجاجية" التي سيتبدل موقفه منها لاحقاً، وربما على ضوء المكانة التي ستكون لتاليتها التي نتناولها هنا، "عربة اسمها رغبة" إلى درجة أنه سيعيد كتابتها من جديد تحت عنوان "هبوط أورفيوس"، بينما سيجد نفسه غير قادر على تبديل حرف في "عربة اسمها رغبة"، هذا بينما سيلتقط متابعون كثر مسرحية "الرغبة" ليعتبروها مسرحيتهم الأيقونية، وعلى رأسهم الإسباني الكبير بيدرو المودافار التي سينطلق منها لبناء فيلمه الأكبر "كل شيء عن أمي".
والحقيقة أن هذا المصير لم يكن متوقعاً إلا بالنسبة إلى مارلون براندو الذي حين لعب الدور الأول في تقديمها المسرحي بإخراج إيليا كازان – متبعاً ذلك باقتباس سينمائي قام به المخرج نفسه - لم يتردد في قوله إن هذه المسرحية هي "أعظم عمل أديته في حياتي" ليقول بعد ذلك، وفقط إثر انتصاره الكبير في العراب بعد ثلث قرن: "ها هو فيتو كورليوني أخرجني أخيراً من لعنة كوالسكي!"، وطبعاً كوالسكي هو الشخصية التي لعبها براندو في المسرحية والفيلم.
مهما يكن، في عام 1947 أنجز وليامز "عربة اسمها رغبة"، وأجاب عن السؤال الذي طرحناه في السطور الأولى من هذا الكلام، لكنه فعل أكثر من ذلك، إذ إن هذه المسرحية، وحتى لو أن كبار النقاد تنبأوا لها يومها بألا تحقق من المكانة والشهرة ما حققته سابقتها، "الحيوانات الزجاجية"، وذلك بعد ثلاث سنوات من النجاح الكبير الذي حققته هذه المسرحية السابقة حين قدمت للمرة الأولى. وكان نجاحاً جماهيرياً ونقدياً، إذ إنها نالت جائزة "حلقة نقاد الدراما" في نيويورك التي كانت تعتبر من أهم جوائز الكتابة المسرحية في ذلك الحين. صحيح أن "عربة اسمها رغبة" فازت بدورها بجوائز عدة، بما فيها أول جائزة "بوليتزر" نالها وليامز، لكن نجاحها الجماهيري لم يوازِ نجاحها النقدي النخبوي آنذاك. النجاح الجماهيري الذي حولها إلى أيقونة سيأتي لاحقاً وبصورة تدريجية.
ومن هنا كان على "عربة اسمها رغبة" التي أخرجها إيليا كازان في المرة الأولى للمسرح كما أشرنا ودون اقتناع كبير أول الأمر، أن تنتظر تحولها إلى فيلم على يد كازان نفسه، وفي الحالين من بطولة الفتى الناشئ مارلون براندو، قبل أن تصبح على كل شفة ولسان، وتدخل شخصيتاها الرئيستان "بلانش دوبوا" و"ستانلي كوالسكي" رواق الشخصيات الإبداعية الكبرى في القرن الـ20. المهم أن المسرحية راحت تعرف طريقها إلى الشهرة والتأثير بالتدريج، حتى صارت ما هي عليه اليوم: واحد من أشهر النصوص الأميركية ومن أكثرها عنفاً داخلياً وصدقاً، ومن أشدها تعبيراً عن ذلك الرعب الجواني الذي تعيشه المرأة من خلال الشخصية الأساسية بلانش، إذ تكتشف أن الصراعات الحقيقية موجودة داخلها، وأن موقفها الرافض ظاهرياً لحيوانية صهرها كوالسكي، إنما هو ناتج من شعور في داخلها مبهم، لكنه يرعبها ويكاد يدمر هشاشتها وحياتها بالتالي.
ولكي لا نستبق الأمور هنا، نعود إلى الحكاية التي ترويها لنا المسرحية، حيث تطالعنا الفتاة الأرستقراطية الحسناء بلانش دوبوا، وهي تصل بعربة ترام إلى نيو أورلينز، هي عربة حقيقية ورمزية في آنٍ معاً. ومن هنا ازدواجية دلالة اسمها "رغبة". تصل بلانش هنا كي تقيم فترة من الزمن في منزل شقيقتها ستيلا المتزوجة من ستانلي كوالسكي. ومنذ البداية تبدو بلانش متمتعة بسمات وأخلاق أرستقراطية وديعة لطيفة هي التي تحاول أن تقبل الدنيا كما هي من دون احتجاج أو تمرد.

روح متفجرة
والحال أننا سرعان ما سنكتشف أن هذا كله ليس إلا في ظاهر الأمور، إذ إن بلانش نفسها لا تعرف في الحقيقة أن في داخلها روحاً متفجرة متمردة قلقة وأدنى إلى أن تكون ممزقة. وأن سمات الهدوء والوداعة التي تظهرها، إنما هي في حقيقة الأمر، قناع الهدنة التي أقامتها مع نفسها، ضمنياً. أما العامل الذي يفجر هذا كله، ويكشف إلى العلن تمزق بلانش دوبوا الداخلي، فهو ستانلي كوالسكي، إذ منذ البداية يلوح لنا هذا الشخص العادي، وابن الشعب - في مقابل أرستقراطية بلانش - يلوح لنا فاسقاً حيوانياً، شبقاً، لا يراعي حرمة ولا يحترم أي ميثاق اجتماعي.
وهكذا كان لا بد في لحظة ما أن يبدأ الصراع بين طبيعة كوالسكي و"طبيعة" بلانش، فيخيل إلى هذه أول الأمر، أن التناقض بين الطبيعتين هو ما ينفرها من صهرها. غير أن مفاجآتها - الجوانية - الكبرى تكون حين تكتشف في أعماقها، أنها - هي - في حقيقتها، تكاد تكون صورة خفية لكوالسكي نفسه. إنها تشبهه، هي التي في أعماقها شبق جنسي حيواني لا يقل حجماً عما لديه. ومن هنا يتحول نفورها منه، إلى رغبة فيه، ويتحول الصراع من صراع بينها وبين كوالسكي، إلى صراع في داخلها.
وذات لحظة إذ تكتشف بلانش هذه الحقيقة التي ترعبها، تحاول أن تنقذ روحها وعائلة أختها بمحاولة التقرب من ميتش صديق كوالسكي إلى حد دفعه للزواج منها. وفي البداية ينجح الإغراء، ولا سيما حين تجتذب بلانش ميتش بصراحتها، إذ تخبره عن الوحدة التي تعيشها منذ انتحر زوجها السابق حين اكتشفت أنه مثلي الجنس، وجابهته باكتشافها حقيقته. وهنا يقول لها ميتش إنه هو بدوره يخشى الوحدة، ولا يريد أن يعيشها وأن خشيته منها تزداد حدة في هذه الأيام، إذ إن أمه التي يعيش معها، مريضة وتوشك على الرحيل.
وهكذا، يسري تيار التفاهم بين الاثنين ويعرض ميتش الزواج على بلانش بالفعل. وتبدو الأمور وكأنها تسير في درب طبيعية، لكن هنا يأتي تدخل ستانلي كوالسكي، الذي لم يرد أن تعيش بلانش أية سعادة مع ميتش طالما أنه هو أيضاً يشعر، ومنذ البداية، بانجذاب جنسي نحوها. وهكذا ينتحي ستانلي بميتش جانباً ليخبره أن بلانش لم تأت إلى نيو أورليانز إلا بعد أن أجبرت على مبارحة مسقطها في ميسيسيبي إثر ما اتهمت به هناك من فجور وإدمان على الكحول.
وهنا إذ تكون ستيلا، زوجة كوالسكي وشقيقه بلانش على وشك الوضع تذهب إلى المستشفى في الوقت الذي تجابه به زوجها مدينة قسوته وموقفه. وإزاء تلك المجابهة يبدو على ستانلي شيء من اللين، ويزور زوجته في المستشفى. أما في البيت، فإن ميتش يلاقي بلانش ليلومها بعنف على "كذبها عليه" ثم يحاول، وقد ثمل، أن يغتصبها. وإذ يعود ستانلي إلى البيت يكتشف أن بلانش قد ارتدت ملابس غريبة وتغني مدعية أنها مدعوة إلى رحلة. وهنا ينفجر عداء ستانلي لبلانش، متجسداً في رغبة جنسية تملي عليه اغتصابها، من دون أن ندري حقاً ما إذا كانت هي تقاوم أو تدعي المقاومة. وبعد أسابيع إذ يبدو على بلانش أنها جنت تماماً، يتم نقلها من منزل أختها إلى مصح للأمراض العقلية.
من الواضح هنا أن تنيسي وليامز (1911 - 1983) الذي كان حين كتابة هذه المسرحية، في الـ36 وقد بلغ أوج نضجه، قد حاول أن يعبر من خلالها عن تلك الصراعات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي كان مجتمع الجنوب الأميركي - الذي يعرفه جيداً - يعيشها. كان كمن يقدم، عبر مسرحيته، مرآة تشاهد فيها قطاعات من الناس دواخلها.
كما كان من الواضح أن ستانلي كوالسكي ليس هنا سوى المرآة التي كشفت لبلانش حقيقة ما يدور في داخلها. ومن هنا، فإن "جنونها" في آخر المسرحية إنما كان سببه اكتشافها حقيقة داخلها، أكثر من اكتشافها عنف العالم الخارجي وقسوته. والحال أن هذا إنما يلخص هواجس سيطرت على وليامز في معظم أعماله، ولا سيما في مسرحياته الدرامية مثل "الحيوانات الزجاجية" (1944) و"قطة على سطح ساخن" (1955) و"فجأة في الصيف الماضي" (1958) و"طائر الشباب الجميل" (1959) وغيرها من أعمال تعد علامات أساسية في تاريخ المسرح الأميركي في النصف الثاني من القرن الـ20.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech