ما بعد العاصفة
26-كانون الأول-2023

ماجد آل حسين
بعد الهجوم الأمريكي العاصف القاصف الذي قطع أوصال بلدنا بجسوره ومؤسساته وترساناته وخيراته، أعلن الطاغية الأفاك السفاك عن انسحاب جيشه (التكتيكي) الذي انقلب إلى انسحاب المقهور المدحور، ليضيف إلى هزائمه هزيمة أخرى.
فلغة الطاغية المسعور لا تُفصح إلا عن المغامرات والمقامرات، كما هو ديدنه منذ أن جاء للسلطة مع حزبه بقطار أمريكي بريطاني.
ثم سارع جنرالاته إلى تقبيل الأرجل الأمريكية في خيمة صفوان المخزية الحدودية، طمعاً بالبقاء على كرسيه المتآكل ليمكر ويغدر بالانتفاضة الشعبية الشعبانية التي تزامنت وذكرى ولادة الإمام المخلص، ليتعانق فيها الربيعان: ربيع الطبيعة وربيع الخلاص.
لكن الأمور أخذت منحىً آخر فاجأ الكثيرين.
فقد كان من مصلحة أمريكا قمع الانتفاضة الشعبانية بأيد بعثية صدامية، وبطلب من بعض الدول الخليجية التي استدعت القوات الأمريكية لتدمير الآلة العسكرية لصدام وإسقاط نظامه، لكن لغة المصالح أفسدت ذلك البرنامج، فصدرت أوامر إيقاف الزحف لقائد القوات الأمريكية الذي كان على بعد مئة وسبعين كيلومتراً من رأس النظام المتهرّئ.
عاشت بعض الدول الخليجية رعباً شديداً من فرعونية النظام الصدامي، وازداد رعبها باحتلاله الكويت، إلا أنها رضيت بنظام تمرد على دعمها في حربه ضد إيران خوفاً من شبح نجاح الانتفاضة الشعبانية التي لو كُتب لها إسقاط الصنم لاهتزت عروشهم في الخليج كما كانوا يتصورون، لأن أولئك الحكام عاشوا فزعاً مشابهاً عندما أشرقت شمس الثورة الإسلامية في إيران، وهكذا كانت هواجسهم تجاه الانتفاضة المباركة.
إنها هواجس ووساوس عاشها أولئك الحكام ولم يكن لها نصيب في الواقع، لأن الثورة الإسلامية نجحت في إسقاط نظام مستبدّ، واستطاعت تغيير الواقع في إيران، وفق برنامج طويل المدى استغرق عدة سنوات، بينما كانت الانتفاضة حدثاً لم يكن بالحسبان في ظل ظلم حكم الأرض والأجواء، وطال الحجر والمدر في كل شبر من أرض الوطن.
إنه الظلم البعثي الصدامي الذي ضاعت فيه الحريات والكرامات.
*
كنت قد عزمت على كتابة ذكرياتي على شكل محطات مفصلة من الطفولة إلى الرجولة إلى الشيخوخة، حيث جاء في بعض القواميس أن من بلغ الخمسين أصبح شيخاً وقد أصبحت في منتصف العقد الخامس،
إلا أنني اخترت أن تكون الانتفاضة محور حديثي، ومن خلال فضائها الواسع أبحر فيما قبلها وما بعدها من أحداث، سواء ما عايشته أم ما نقل لي من أفواه من أثق بهم.
فببركة الانتفاضة أصابتني جرعات من الوعي بعد أن كنت بعيداً عن هذه الأجواء، مقفر الفهم والعلم بالثقافة الإسلامية.
لم تكن الانتفاضة حدثاً عابراً، بل كانت سلسلة من حلقات الجهاد والجهود التي قام بها المؤمنون الرساليون في بلاد الرافدين، وفي مقدمتهم علماء الدين قبل وما بعد ثورة العشرين، والمكتبات مليئة بالمجلدات التي عالجت هذه الموضوعات، لكنني أتحدث عما سبق الانتفاضة قليلاً، وكيف تشكّلت رؤى القائمين بها؟ وما هي برامجهم؟ والظروف التي عاشوها؟ وعلاقة ذلك بإخوتهم المهاجرين من المجاهدين الرساليين؟ لتظهر الصورة البراقة لأصحاب الدور في هذا المفصل التأريخي الناصع الذي أعاد قيمومة مدرسة الوعي والتضحية لكي تأخذ بزمام المبادرة بعد أن ظن الحزب المقبور وقائده المغرور أن الشعب قد احتضرت آماله وأصبح ملكاً عضوضاً لآل صدام.
*
كانت أولى المحطات التي انتبهت بها إلى ما يحصل حولي هو انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قده) ففي حينها كنت في العاشرة من عمري، وقد كنت أستمع لأحاديث نابضة بالفرح والسرور من على شفاه بعض الأقارب المتأثرين بالإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده). ولا بد لي أن أدون بأن ذاكرتي كانت يقظة تلتقط صور محيطها وأحداثه الكثيرة قبل ذلك التأريخ، ولا سيما في قريتنا التي تحتضنها مياه النهرين، وسأعرض صوراً عنها وفقا لسياق السرد.
رغم وحشية السلطة البعثية وأسطورية جرائمها لم يستطع المؤمنون من أقربائنا ومعارفنا إخفاء بهجتهم بانتصار الثورة الإسلامية وعشقهم لقائدها السيد الامام روح الله الخميني (قده) لكن الفرحة لم تدم طويلاً، فقد رافق ذلك مسلسل رهيب من الاعتقالات والإعدامات والتعذيب والتنكيل والإقصاء والتهميش ووو ...وأخيراً ارتكبت السلطة المستبدة أمّ الجرائم بإعدام الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده) وأخته الشهيدة العلوية بنت الهدى.
ثم شنت حملات اعتقالات هستيرية شملت عشرات الآلاف من المؤمنين والمؤمنات وأطفالهم وعوائلهم، وأذاقتهم أقسى صنوف التعذيب.
استمرت الحملات التدميرية الجنونية للسلطة البعثية الصدامية حتى شن صدام الحرب على الجمهورية الإسلامية.
عشت أولى لحظات الرعب باعتقال بعض أقاربي من الرجال والنساء والأطفال، وأصبحت أسير القلق، فقد كان المحيط ملغوماً، والخوف يملأ النفوس، فكانت السلطة تقتل على التهمة والظنة، وتحصي على الناس كل حركاتهم وسكناتهم.
كان الوضع بائساً ومأساوياً للغاية، فقد هاجر الصلحاء الذين نجوا من المشانق، واختفت أخبار عشرات الألوف، ولم يعلم ذووهم هل هم في السجون؟ أم أكلتهم سياط الجلادين وأحواض (التيزاب المركّز)؟ أو طحنتهم الثرامات الكهربائية ليصبحوا طعاماً للأسماك؟ أو دفنوا أحياءً؟ أو دفع بهم لتفجير حقول الألغام في قادسية عهر صدام؟
إن دراسة جحيم الظلم المستعر في الحقبة الصدامية لا ينفكّ بحال عن حديث الانتفاضة الشعبانية، لأنها كانت أبلغ تعبير للرد على ذلك الجحيم.
فمنذ اليوم الأول لمجيء البعثيين للحكم كان منهجهم استئصال خصومهم أياً كانوا، وكان أكبر خطر يثير قلقهم هو الإسلام المحمدي الأصيل الذي تمثله مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بعلمائها وحوزتها العلمية وخطبائها وكتابها ومثقفيها.
لقد اقتفى البعثيون آثار من سبقهم من الأمويين والعباسيين وأشباههم، في اضطهاد وإقصاء كل من تحوم حوله شبهة (المعارضة) لا سيما أتباع مدرسة أهل البيت (ع).
كنت في الصف الأول المتوسط عندما شاع وذاع خبر إعدام السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قده) وبعدها بشهور قلائل شن نظام صدام حربه على إيران.
لم أكن أدرك كيف افترس البعثيون بلاد الرافدين، مع أن المحيط الاجتماعي كان ينفر من سلوكهم رغم اتساع شعبيتهم في صفوف قواعدهم التي صنعوها بالامتيازات وزائف الشعارات.
وبعد أن أزاحت السلطة جل خصومها ورغم حملاتها الكبيرة لتكثير قواعدها اقتحمت عالم البراءة، لتصل حملات (الكسب الحزبي) لطلاب الدراسة المتوسطة، فقد كان الرفاق يأتون إلى المدارس ليطلبوا من طلابها الانتماء للحزب!!! وهل يدرك طالب في الأول المتوسط معنى الانتماء لحزب؟؟؟!!!!
بل زاد على ذلك عثواً وفساداً، فأسس ما يسمى ب (الطلائع) في المدارس الإبتدائية، والفتوة في المدارس المتوسطة والإعدادية، لتربية الجيل على برامجه ومناهجه التي استقاها من أفكار ميشيل عفلق وأمثاله.
أصبحت غالبية المجتمع مطوقة بجاسوسية النظام، فغالبية الأطفال أصبحوا - بلا وعي - عسس النظام وسعاته بالوشاية على أهليهم.
لقد اغتصب النظام براءة الطفولة وجندها لحزبه.
أتذكر أن أحد أقاربنا كان له طفل ينفعل عندما يمر بموقف مزعج، فيسارع إلى شتم صدام، فيركض أهله مرعوبين ليحملوه إلى البيت لإلهائه وإنسائه خشية الوشاية من عيون السلطة.
في أحد الأيام من عام ١٩٨٠ بينما كنت شغوفاً بدراستي في المتوسطة، وأثناء الدوام الرسمي، جاءنا رفيق (أفعوي) الشخصية ظاهره لين وباطنه مسموم.
قال لنا الرفيق: من يرغب منكم بالانتماء إلى حزب البعث فليثبت اسمه؟
فأثبت الطلبة أسماءهم، ورفض أحد زملائنا ذلك. فسأله (الرفيق): لماذا لاتريد الانتماء؟ قال الزميل بشجاعة لا أمتلكها أنا: أريد البقاء مستقلاً. فتركه وانصرف. وكنت أرقب ما سيحصل لزميلي في قادم الأيام، لكنني في وقتها اضطررت لتسجيل اسمي، لأن الكثير من المعارف وبعض الأقارب كانوا يرزحون في السجون، وخشيت إن لم أفعل أن يكون مصيري معهم.
كنت أرى بعض المدرسين يحذرون السلطة ويتعاملون معها بتقية مفرطة، وكان بعض المدرسين يتغنون بأمجاد الحزب الطوباوية، ويتلذذون بملاحقة المؤمنين لإثبات ولائهم للنظام.
كان التعليم يتساقط وينحدر نحو الهاوية حيث فجعنا بإعدام الكثير من الأساتذة، وهاجر من وجد منفذاً للنجاة، وسكت البعض مختفياً للحفاظ على نفسه...
وامأساتاه!! لقد أفرغت المدارس من المربين، وسيق الباقون من الكوادر المهنية إلى جبهات القتال، إما باستدعائهم جنوداً، أو بزجّهم قسراً في (الجيش الشعبي) الذي أسسه الحزب البائد.
كانت مفارز النظام تقف في سيطرات علنية، لتوقف سيارات الأجرة الكبيرة والمتوسطة، ليجمعوا منها العمال والكسبة فيرسلوهم إلى معسكرات (الجيش الشعبي) ليتدربوا قسراً، ثم يسوقونهم كرهاً إلى جبهات القتال. وكذا كان الأمر مع الموظفين، فمن لم يكن على لائحة الخدمة الإلزامية القسرية، اقتنصته مفارز (الجيش الشعبي) الإجرامية لتسخّره لسد الثغرات، فالجبهات الملتهبة في قادسية آل المجيد، تحتاج المزيد ثم المزيد.
يتبع..

بقيمة تزيد عن 15 مليون دولار.. لوكهيد مارتن تبيع أنضمة دفاع جوي إلى العراق
5-أيار-2024
العراق يتذيل قائمة التصنيف العالمي لحرية الصحافة
5-أيار-2024
مخالفات مالية افسادية في مؤسسات ودوائر حكومية بكربلاء
5-أيار-2024
الشمري يؤكد على نصب كاميرات ذكية في جميع المناطق
5-أيار-2024
وكيل وزير الثقافة والارشاد الإيراني يزور نقابة الصحفيين العراقيين ويشيد بالعلاقات الإعلامية المتطورة بين العراق وإيران 
5-أيار-2024
كركوك تصل إلى الإنسداد السياسي.. توقف الحوارات بين الكتل يعطل تشكيل الحكومة المحلية
5-أيار-2024
الأمن الوطني يضبط أكثر من 1.4 مليون حبة مخدرة مخبأة في لفافات قماش
5-أيار-2024
أبو ذر الغفاري.. السهم الاشتراكي
5-أيار-2024
المهاجرون في قلب حملات التضليل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية
5-أيار-2024
تشافي يؤيد خطة تعاقد برشلونة الإسباني مع كلوب
5-أيار-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech