رعد كريم عزيز
(وضعت أمر اكمال دراستي العليا في كلية آداب جامعة القاهرة هدفي الثاني بعدما انشغلت تدريجيا بمفردات الحياة الثقافية، فكنت قريبًا إليها، أبدلت مقاعد الدراسة بكراسي مقاهي القاهرة الأدبية.)هذا الاقتباس من مقدمة الاديب عائد خصباك يلخص القدرة العجيبة على تسجيل ما مر به من ليالي القاهرة المئة زائد واحد ايام سبعينات القرن الماضي كما فعل في كتابه حياتي 100% زائد واحد دون ان يسمي حياته بالايام او الليالي ,والذي سجل فيه مذكراته العراقية /الحلية,لكنه هنا ينقل عينه وقلبه ووجدانه نحو سرد القاهرة واهلها الذين يعيشون الليل اكثر من النهار,فسحرهم الظلام المشع بالحكايات والاشعار والقفشات والمواجهة مع السلطات ,حتى تحولوا الى سحرة ماهرين يحولون الواقع الى خيال يطير في سماء القاهرة ,ويبزغون نجوما في قصص متميزة ويعشيون حياتا لا تشبه حياة غيرهم مما جعل سردهم محط انظار القارئ العربي في تلك الفترة خاصة وان اغلب قصصهم تحولت الى السينما واسعة الانتشار ,مما حول القاهرة الى ديكور كبير ما ان تصل الى المدينة حتى تدخل في الفيلم ,فهذا شارع صلاح سالم وهذه مقهى ريش وهذا خان الخليلي وهذا عبد الحليم حافظ وهذا نجيب محفوظ وهذه الاهرامات وابو الهول حتى نصل الى رؤساء الجمهورية وعلاقتهم بالفن والادب بشكل مباشر ولكل واحد منهم حكايات.كل هذا السحر ورائحة دخانه المسكرة جَرَت القاص العراقي عائد خصباك من انفه ليعيش ليالي قاهرة نجيب محفوظ ,فهو لم يكتفي بقراءة قصص يحيى الطاهر عبد الله ومحمد البساطي و..و..و..و..,بل ذهب الى منجم الابداع وعاش معهم في المقاهي والفنادق والمدافن ,وهو هنا كمن انتقل من الخريطة الجغرافية الورقية الى ملمس الحياة النابضة وهي تعمل على اكمال كتابة الروايات والقصص والافلام والاغاني وحياكة الاساطير.
ولو عمدنا الى متابعة كل ليلة على حدة لاحتجنا الى كتاب اخر يضاهي كتاب خصباك ,ولكننا نسعى لاكتشاف الروابط التي جعلت من ليالي القاهرة نسيجا واحدا خاصا ساهم في اعطاء السرد المصري شكله الحديث وتنوع مدارسه عقب التحولات الكتابية من القصص التاريخية الى الواقعية ثم الى السردية الحديثة وتداخل الاجناس بين السرد والشعر وتاثير السينما والفنون الاخرى, اضافة الى استخدام اللهجة المحكية دون غلق الابواب بين جنس واخر ,ان طبيعة الليالي المصرية التي عاشها خصباك هي ليال يتنوع في حضورها الاشخاص ,وكل شخصية تسلم الحدث لعائد مما خلق التنوع وسهل التعرف على اكثر الشخصيات تاثيرا في الواقع الادبي المصري حينها وهي تشبه رياضة البريد التي يسلم فيها الرياضي العصا لزميله كي يكمل السباق,يوم كان يجتمع شيخ امام المطرب مع يحيى الطاهر القاص ويلتقي الشاعر امل دنقل مع كتاب القصة وصلاح جاهين الرسام والشاعر والممثل والقاص ابراهيم أصلان، جمال الغيطاني وسعيد الكفراوي ومحمد البساطي، يوسف إدريس، غالي شكري، سامي خشبة، محمد عفيفي مطر، نجيب محفوظ، لطفي الخولي، خيري شلبي، وعبد الوهاب البياتي الشاعر العراقي يوم كان في مصر, مع ابراهيم فتحي وفاروق عبد القادر ونجيب سرور ولطفي الخولي وادوار الخراط.
,هنا حياة حافلة بالتنوع الابداعي رغم انها تعيش صراعا كبيرا مع السلطة ,وفيما بينها ابداعيا, الا ان هذا الصراع انتج قصصا وقصائد وافلاما لا تضاهى ,اضافة الى ان الاديب عائد خصباك قاص مميز اسهم فاعلا معهم في مصر كاتبا حداثويا وليس صحفيا يسجل الاحداث كمراقب وناقل للحدث فقط.
وحين يبدأ عائد بذكر الشحصيات يبدأ التشويق والاشتياق واللهفة والوجود الواقعي للشخصيات التي عرفها في الورق ولكنها اصبحت امامه فاخذ بالطمع في المطالب حتى يصدق انه جزء من الشخصيات المصرية الساردة وهو يعيش ليلهم ,ليل القاهرة الذي لا يشبه اي ليل في البدان العربية.
ويمتاز عائد خصباك عن المصريين,بدمجه الليل والنهار كي يلحق بالحياة الادبية الفوارة حينها لانه يعرف انه سيرجع الى العراق ويخشى ان تفوته نأمة هنا او هناك ,فسجل لنا حياته معجونة بحياتهم بوقائع تفصيلية وهذه احدى ميزات السارد الذي جبل على التوثيق بهدوء ,عكس ما يفعله الشاعر الذي يحرق الاحداث بالاختزال الانفعالي الخيالي السريع,ولو ان نموذج القاص يحيى الطاهر عبد الله يمزج بين السرد المتمهل وبين الروح الشعرية الوثابة التي تحترق مسافاتها بالايقاع السريع المتلاحق,وهنا دخل القاص عائد خصباك في كتابه سباقا مع ليالي القاهرة ,منفعلا ومنغمسا حد التحدث احيانا باللهجة المصرية وواعيا وموثقا الى الحد الذي يعطينا صورا وحوداث لا تنسى ,لا بل ان الكثير منها غير موثق مصريا ,لذا يحق لنا ان نقول انها ليالي مصر التي تعود ملكيتها لعائد خصباك.
"فترة حرجة"
درج التوثيق الشعبي على تسمية فترة الستينات و السبعينات من القرن الماضي بالزمن الجميل فيما تكشف لنا المذكرات الادبية عن عمق المعاناة لفترة حرجة شهدت انمحاء اليسار وغيابه في السجون والمنافي في عموم المنطقة العربية ,ولكن التجربة المصرية وما يحيط بها من ظروف اجتماعية خاصة وطريقة معيشة فيها بعضا من الطراوة والتمهل مما ساعد على انتاج الادب والفن في نقلات حداثوية اثرت في الدول الاخرى سيما في السرد وهذه ميزة مصرية لامعة استطاع عائد خصباك ان يعيشها مراقبا وساردا ,لذا يعتبر هذا الكتاب تجربة عميقة اتتنا من داخل المختبر المصري الخاص بكل اشكاله وانواعه الفنية بقلم يتقن نقل السرد من الواقع الى الفن ,وقد اشرنا الى ذلك في مقالة سابقة.
من يبحث عن المتعة الفنية وسماع القصص والتعرف على الشخصيات الادبية المصرية عن قرب عليه ان يقرأ كتاب "مائة ليلة وليلة ايام العراقي قاهرة نجيب محفوظ" للقاص عائد خصباك ,حيث يمنحه كما من الشخصيات في خلاصة ادبية مليئة بالشواهد والحكايا والتي اسبغ عليها الكثير من سمات عمله الادبي الفني في عالم السرد.