ماذا جنينا من سقوط صدام؟
15-نيسان-2023
عباس سرحان
سؤال يتبادله عراقيون كلما مرت الذكرى السنوية للإطاحة بحكم صدام. لكن الإجابة الموضوعية عن هذا السؤال تضيع غالبا بين الامتعاض من مشاكل الحياة، أو الجهل بالماضي أو تأثرا بماكنة الدعاية التي يديرها بعثيون لتصوير العراق ايام حكم البعثيين جنانا وارفة الظلال وأمنا وأمانا. طبعا الإجابة الموضوعية الوافية عن هذا السؤال تحتاج إلى آلاف المجلدات لجمع قصص الألم والكوارث والفجائع التي ارتكبها البعثيون بحق العراقيين وغيرهم طوال أربعين عاما من حكمهم.
ولا يمكن الإحاطة بكل الوجع الإنساني والإخفاق الإداري والاقتصادي والسياسي والخدمي الذي جرّوه على العراق خلال فترة حكمهم التي شبهها العراقيون المضطهدون بأسوأ حُقب الاستعمار المتخلف التي مرت على العراق.
لأن نظام البعث كان "استعمارا" أيضا تمكنت فيه عائلة عدوانية صغيرة من التفرد بحكم البلاد وأقصت كل الخيرين، بل كل أبناء الوطن وحولتهم الى عبيد يرقصون على ترانيم العبودية لصدام والمقربين منه ومن يتوقف عن الرقص تلفّه مقصلة الجلاد.
سنتغافل عن ذكر الحروب العبثية التي شنها صدام ضد جيران العراق وتسببت بانهيار الدولة العراقية دون أن يتمكن من إيجاد مبرر واحد مقنع لتلك الحروب المدمرة.
فقد مزق اتفاقية الجزائر التي ابرمها بنفسه مع شاه ايران عام 1975، وشن حربا عليها مستغلا فوضى الثورة التي عاشتها عام 1979 وطالب باستعادة شط العرب الذي تنازل عنه في اتفاقية 1975 ثم عاد وقبل بالاتفاقية نفسها بعد ثمان سنوات من الحرب!
فلا أعاد نصف شط العرب إلى العراق، ولا "حرّر" جزراً متنازعاً عليها بين ايران والإمارات طالب بها هو ولم تطالب بها الإمارات نفسها، ولا حفظ للعراق هيبته ودماء ابنائه وأمنه واستقراره واقتصاده. خسر كل هذا وخسر العراقيون أبناءهم وبلدهم وفرصهم في التطور، ولم يأخذ عبرة مما حدث فأقدم في 1990 على ابتلاع الكويت بحجة أنها محافظة عراقية ورفض الانسحاب منها على الرغم من كل توسلات المجتمع الدولي وأصدقاء العراق. ثم اختار وفي تخبط كارثي أسوأ توقيت لينسحب من الكويت تحت القصف معرضا الجيش العراقي لأكبر مجزرة في التاريخ أبادت 80% منه، فابتلع مطالبه بالكويت وزاد أن منح الكويتيين أراضي عراقية جديدة.
لن نخوض بحربه ضد الكرد في شمال العراق وعمليات الأنفال سيئة الصيت التي أباد فيها آلاف الأسر الكردية دون وخزة ضمير، مع انهم عراقيون وهو مسؤول عنهم انطلاقا من الحديث الشريف" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". سنتغافل عن حربه ضد الشيعة في وسط وجنوب البلاد، وما شنّه ضدهم من حملة إبادة شاملة طالت رموزهم الدينية والاجتماعية وملأت الأرض بمقابرهم الجماعية. ولم يكتف بذلك بل قطع المياه عنهم واتفق مع تركيا على تقليل حصة العراق المائية عام 1992 ليتمكن من تجفيف الأهوار التي كانت وقتها ملاذا للفارين من بطشه.
لن نكتب عن محاربة صدام والبعث للإبداع والمبدعين ومطاردته الشعراء والادباء ممن رفضوا طريقته في حكم البلاد، مع أن حق الاعتراض مكفول للبشر حتى في زمن الأنبياء "ع" ولم يحدث أن أمر نبي بقتل شخص اعترض عليه. ويكفي ان نذكر أن أبرز أعلام الشعر والأدب، محمد مهدي الجواهري، وعبد الوهاب البياتي، ومظفر النواب، أفنوا حياتهم في المهاجر هربا من بطش صدام، بل أنه أسقط الجنسية عن شاعر العرب الكبير، الجواهري، الذي وصفته مراكز الثقافة العربية بأنه آخر أعمدة الشعر العربي. لن نكتب عن ذلك، ولا عن ضياع الأسرة العراقية بسبب الحروب ونشوء أجيال من الأيتام والأرامل افتقدت إلى الرعاية الأسرية بعد رحيل الآباء، وتفكك المجتمع بسبب الحصار، ولن نكتب عن تبديد أموال العراق وتوقف حركة التنمية فيه وانهيار الزراعة والصناعة وانتشار البطالة. لن نكتب عن كل ذلك، ولكننا ربحنا بسقوط صدام والبعث فرصة لنرى الحياة بشكل مختلف، ومُنِحنا الأمل في إمكانية أن تأتي الحياة بفرصة أفضل بعد أن كانت كل الأبواب مقفلة.
زادت رواتب الموظفين أضعافا، وتوسّعت مدننا وتطورت أبنيتنا ورُصفت جدرانها بالآجر والمرمر واقتنى أغلب العراقيين سيارات حديثة. امتلأت أسواقنا بمختلف البضائع ومن مختلف المناشيء وولى الزمن الذي اضطر فيه العراقيون إلى صبغ ملابسهم العتيقة لارتدائها من جديد. تمكّن العراقيون من المشاركة الواسعة في العملية السياسية، وتمكنوا لأول مرة من انتقاد سياسييهم، بل شتمهم في احيان كثيرة دون ان يخشوا من زوار الليل وآلات ثرم الأجساد، ودون أن يخشى العراقي من كَتَبَةِ التقارير والمخبرين السريين. تمكّنا نحن وأطفالنا أن نقتني جوازات سفر، كانت ممنوعة علينا بزمن صدام، وسافر أغلب العراقيين إلى دول مجاورة وبعيدة دون رقيب ودون الاضطرار الى استحصال موافقة الشعبة الحزبية. الطلبة العراقيون اليوم يدرسون في جامعات حول العالم ولم توصد الأبواب بوجوههم كما كانت بفعل الحصار الذي فرضته سياسات صدام على عراق.
يملك العراقيون اليوم فرصة أفضل في اختيار سياسييهم، وفرصة أفضل في الحياة، أما ما عانيناه بعد سقوط صدام، فهو بفعل أيتامه وتآمر الدول الطائفية في المنطقة لإفشال التجربة الجديدة.