إبراهيم العريس 
ليس غريباً ولا مستهجناً على الإطلاق في عالم الفن التشكيلي أن يمضي فنان معين معظم سنوات عمره وهو مُنكبٌّ على رسم وجهه، وربما جسده أيضاً، في عدد لا متناهي من اللوحات التي تسمى في هذا العالم الفني "أوتوبورتريه".
ونعرف طبعاً أن كثراً من كبار الفنانين فعلوها بحيث إن عمالقة لا يقلون أهمية عن رمبراندت وبيكاسو وماكس بيكمان، وفنسنت فان غوخ طبعاً، وعشرات غيرهم، خلف كل واحد منهم عند رحيله لوحات ذاتية ظل معظمها معروضاً في محترفه، ناهيك بلوحات أكثر منها عدداً عرفت طريقها حقاً إلى جدران معارض تجارية من جامعي اللوحات، وخلدت الفنان نفسه من ناحية كرسام لأعمال معظمها يبدو اليوم استثنائياً، ومن ناحية ثانية بوصفه موضوعاً وموديلاً لفنه.
غير أن ثمة حالات نادرة لم يرسم فيها فنانون كبار أنفسهم كثيراً، ومن بين هؤلاء الرسام الفرنسي نيكولا بوسان (1594 - 1665)، الذي خلال حياته الطويلة نسبياً لم يرسم نفسه إلا في لوحات قليلة وتحديداً، بخاصة، في بورتريهين أهم ما يمكن أن يقال عنهما إنها رسما في الفترة نفسها تقريباً، في العامين المتعاقبين 1649 و1650. وهما لوحتان تبدوان متشابهتين للوهلة الأولى وبالمقاييس ذاتهما تقريباً، إلى درجة أن المرء قد يقول إنهما رُسمتا بناءً على طلب جامعين للوحات جاء طلباهما بالصدفة في وقت واحد. غير أن ذلك غير صحيح، فلئن كان ثمة بالفعل طلب من جامع للوحات، يتعلق هذا الطلب بلوحة واحدة فحسب، لم تكن هي أول البورتريهين إنجازاً، بل الثانية المعتبرة نهائية. فما الحكاية؟
الحكاية بكل بساطة هي أن الجامع الشهير في ذلك الزمن، الفرنسي شانتيلو استغل فرصة وجود صديقه الرسام بوسان في باريس، هو الذي كان معتاداً في ذلك الحين أن يعيش معظم وقته في روما - وينهل من مكوناتها الفنية وتاريخها ومناظرها الطبيعية، لوحات رائعة جعلته محسوباً على النهضة المتأخرة الإيطالية أكثر مما على الحركة التاريخية الرومانسية الفرنسية التي يحاول كثر من المؤرخين الفرنسيين "حشره" فيها - استغل شانتيلو ذلك إذا لتوصية الرسام بإنجاز بورتريه ذاتي لشخصيته هو نفسه، أي لبوسان، لأنه يريد أن يمتلك في دارته العامرة لوحة "تخلد تلك الصداقة التي كانت تجمع بينهما".
من فوره انهمك بوسان في رسم اللوحة المطلوبة مقدراً لصديقه الثري ذلك الاهتمام الذي يفوق ما كان يتطلع إليه هو. وهو بالفعل أنجز اللوحة المطلوبة خلال أشهر قليلة، لكنه وإذ وقف أمامها يتأملها قبل إرسالها بوقت قصير، قال في نفسه: إن شانتيلو يستحق ما هو أفضل. وهكذا بعث تلك اللوحة المعلقة الآن في برلين ويصل عرضها إلى 78 سم، بينما ارتفاعها 85 سم، بعثها إلى صديق آخر له يعيش في روما هو المصرفي بوانتيل، الذي كان كما يبدو يلح عليه منذ زمن للحصول على لوحة من رسمه. صحيح أن المثال الروماني الكبير، والذي كان صديق الطرفين أبلغ بوسان إعجابه الشديد باللوحة الأولى، لكن هذا ابتسم وهمهم: "انتظر يا صديقي حتى ترى الثانية!".
وهو كان بالفعل، حين وصول الأولى إلى الحاضرة الإيطالية، قد بدأ يشتغل حقاً على تلك التي سيتسلمها شانتيلو خلال أشهر قليلة، وسوف تقارن دائماً بأختها الأولى فتكون المقارنة لمصلحة الثانية بإجماع من كل الذين شاهدوا الاثنتين معاً، باستثناء برنيني الذي ظل متمسكاً في رأيه في تفضيله الأولى، علماً أن الثانية تزيد في مساحتها قليلاً عن السابقة فهي تبلغ عرضاً 74 سم، بينما ترتفع 98 سم. ولئن كانت الأولى معلقة اليوم في برلين كما أسلفنا (في شتاتليشي ميزيوم)، فإن الثانية معلقة في متحف اللوفر الباريسي.
والحقيقة أن وجود هاتين اللوحتين في المتحفين الكبيرين وكونهما نادرتين في مسار بوسان المهني، حتماً دائماً على الباحثين أن يقارنوا بينهما، كما أشرنا. ولعل في مقدورنا أن نسارع إلى القول إن المقارنة تبدت على الدوام جمالية، لكنها تتعلق خاصة بالكيفية التي يرى بها فنان كبير من طينة بوسان، نفسه، بل بصورة أكثر دقة: كيف يريد أن يراه الآخرون.
ولعل في الفوارق الدقيقة على أية حال التي تم رصدها، سبر للطريقة المثلى التي كان الرسام يرى بها إلى ذاته، مما أثار اهتمام الباحثين من حيث إن العادة قد جرت، ومن جراء مضي فترات زمنية طويلة تمر بين لوحتين ذاتيتين يضع فيهما الفنان ذاته، على حسبان التقدم في العمر وتبدل الظروف الحياتية والاجتماعية، وما إلى ذلك في ميزان المقارنة. أما هنا فالأمور أبسط لأن حياة بوسان لم تعرف تبدلات مهمة وجذرية خلال عامي رسم اللوحتين. وهو رسمهما تباعاً في المكان ذاته، مستخدماً "الموديل" ذاته طبعاً، مما يعني أن الفوارق كانت مقصودة لا عفو الخاطر، وكأن الفنان أجرى نوعاً من تعديلات في الميزانسين (الإخراج) على الطريقة التي تسمى بها اليوم في اللغة النقدية الأدبية "تخييل الذات"، أي تهيئة تلك الذات كي يتم التقاط صورتها على الطريقة الفوتوغرافية التي لن توجد إلا بعد مئات السنين من الزمن الذي عاش فيه ذلك الرسام.
ومهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة إلى أن الرسامين كانوا يحضرون بالتفصيل للبورتريهات التي يرسمونها لأنفسهم، لكن الفارق الأساس يكمن في الفاصل الزمني الذي يكاد يكون معدوما هنا بين لوحتي رسامنا بالتأكيد.
منذ البداية لا بد من الإشارة إلى ما يجمع من مزاج واحد بين اللوحتين. ففيهما معاً حرص بوسان على أن يبرز مكانته التاريخية والاجتماعية وهو يفكر في أعداء فرنسيين كثر له ينتظرون أية هنة يُبديها لينقضوا عليه. وهذه المكانة تتجلى، وإن بصورة مختلفة، بين العملين. ففي لوحة برلين نراه منحنياً نحو مشاهد اللوحة مع رأسه مائلة قليلاً إلى الوراء، إنما مع تعبير غير واضح، لكنه يتسم بقدر ما من الشجن. أما ملونة اللوحة فمحصورة في ألوان تميل إلى الرمادي البارد. وهو صور نفسه هنا أمام ما يبدو أنه قبره وقد حفرت عليه سطور بلون ذهبي تشهد على مكانته وتاريخه وألقابه، مركزة على كونه رسام البلاط الفرنسي الأول في عهد لويس الثالث عشر. وهو إن كان يحمل ما يرمز إلى كونه رساماً باليد اليسرى المتقاطعة مع اليمنى، فإنه يمسك في هذه الأخيرة كتاباً في قوانين الألوان وفلسفتها. وفي المقابل نجد أموراً كثيرة مختلفة في اللوحة الثانية، لوحة متحف اللوفر، والتي سيعتمدها بوسان بأكثر مما فعل بالنسبة إلى الأولى، لتمثله رسمياً. فهنا نجده في جلسة أكثر رسمية، بينما نكتشف أن الكتاب الذي يبدو أنه يقرؤه، كتاب فلسفي. أما نظرته فتتفرس مباشرة في من يتصوره متفرجاً على اللوحة، ناهيك بأن نظرته هو نفسه تبدو متقشفة وحازمة كوزير أو مسؤول كبير في الدولة بأكثر كثيراً مما تفعل النظرة الإنسانية التي ترتسم على محياه في اللوحة البرلينية. وهذا يضعنا مباشرة في مواجهة لوحة تتسم بقدر كبير من الهم الرسمي مع جبين واضح الدلالة. وهو أمر يزيد من دلالته، وجود باب في خلفية اللوحة وإشارة إلى الرسم من خلال أطر مذهبة أحدها جاهز للاستخدام، يبدو أن الفنان حرص على وضعها في الصورة لقيمتها الهندسية التي تزيد من الإيحاء برسمية الموقف كله.