ابراهيم العريس
تدور "المصيدة" في فندق متوسط يديره الزوجان الشابان مولي وجيل رالستون بعد أن أنجز إعداده ليستقبل الزبائن. وعند بداية المسرحية يكون صاحبا الفندق و4 من النزلاء شبه محبوسين في داخله جراء العاصفة الثلجية الضاربة. وبعد أن ينضم إلى الجمع مسافر إضافي، يصل إلى المكان متزلجاً شرطي يخبر الحاضرين باحتمال أن ترتكب جريمة في المكان، بعد أن عثر على جثة سيدة تدعى مس مورين ليف.
لا شك أن عدد "الأساطير" التي أحاطت بمسرحية "مصيدة الفئران" التي كتبتها أغاثا كريستي، يفوق عدد الأساطير التي أحاطت بأي عمل أدبي أو فني، خلال النصف الثاني من القرن الـ20. ولعل أطرف تلك الأساطير ما يذكر دائماً حين الحديث عن هذه المسرحية التي كانت ولأعوام قليلة لا تزال تقدم على أحد مسارح لندن منذ 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 1952، من أن ثمة إعلاناً يطلب من متفرجي المسرحية لدى الخروج من العرض أن يتكرموا بعدم "فضح نهايتها أمام الذين لم يشاهدوها بعد، بغية الإبقاء على لذة المفاجأة". وكاتب هذه السطور شاهد المسرحية ثلاث مرات في سبعينيات القرن الماضي في بيكاديللي ولم يجد ذلك العنوان حتى بعد بحث دقيق! ثم إن هذا الإعلان لا يمكن أن يكون منطقياً، وببساطة لأن المسرحية كانت في الأصل تمثيلية إذاعية بثت على الملأ منذ ربيع عام 1947، كما أن نصها طبع ونشر مرات عدة. صحيح أن طباعته في بريطانيا تأخرت، لكنه طبع في الولايات المتحدة وكندا عشرات المرات. ومن ناحية ثانية لا بد أن نذكر هنا أن المسرحية لم يكن عنوانها الأصلي "مصيدة الفئران" بل كان "ثلاثة فئران عمياء". وبهذا العنوان قدمت إذاعياً، لكنها حين حولت إلى المسرح احتجت كاتبة إنجليزية على العنوان كونها كانت استخدمته سابقاً لمسرحية كتبتها. فكان أن أبدلته أغاثا كريستي إلى "مصيدة الفئران".
أما من أين أتت سيدة الأدب البوليسي بهذا العنوان، فحكاية طريفة أخرى: من مسرحية "هاملت" لشكسبير، إذ نعرف أن الملك، حين تقدم أمامه المسرحية، داخل المسرحية، التي تصور الجريمة داخل المسرح، يسأل عن عنوان المسرحية فيجيبه هاملت، "مصيدة الفئران" كإشارة إلى الفخ الذي نصبه الأمير الشاب لعمه القاتل وأمه الزانية، مع أن العنوان الحقيقي للمسرحية المقدمة كان "مقتل غونزاغو". المهم أن أغاثا كريستي كتبت هذا العمل ليقدم مسرحياً بعد أن كان مر بمراحل عدة، فهو كان أولاً قصة قصيرة، ثم كان تمثيلية إذاعية وتحول مسرحية. وثمة دائماً رغبة في تحويله إلى فيلم سينمائي أو إلى عمل تلفزيوني. وهذه الرغبة الأخيرة تنتظر طبعاً، انتهاء العروض المسرحية التي يبدو أنها لن تنتهي أبداً، إذ مضى 55 سنة على "مصيدة الفئران" وهي تقدم على الخشبة، وإن تبدلت الصالة، بحيث إن عدد العروض وصل إلى 23 ألف عرض بل أكثر كثيراً. وهو رقم لا يمكن أن تدعيه أية مسرحية أخرى في تاريخ البشرية. لكن عم تتحدث هذه المسرحية، ولماذا تراها تلقى كل هذا النجاح وتتنقل، في تواصل مدهش، من جيل إلى جيل؟ من ناحية الأسلوب، لا بد أن هذه المسرحية مختلفة، في عناصر كثيرة، عما اعتادت أغاثا كريستي أن تحبكه في رواياتها الشهيرة، لا سيما في ما يتعلق بالعناصر الرئيسة: المكان المغلق، الجريمة أو الجرائم المتعددة، التحري، الشخصيات التي لا بد أن تحوم الشبهة منذ البداية حول كل منها وأي منها، ثم اللغز الذي لا يحل إلا في اللحظات الأخيرة. إنه المخطط نفسه، يتكرر لدى أغاثا كريستي، إلى ما لا نهاية في أعمالها، لكن الرائع هو أنه في كل عمل يتخذ بعداً جديداً، ويبدو وكأن لا سابق له، رامياً المتفرج، هنا، والقارئ هناك، في حيرة من أمره قبل أن تحل النهاية. والنهاية هي لدى كريستي، هنا ودائماً، لا يمكن أن تكون متوقعة على الإطلاق. فذلكم هو، في الحقيقة، سر الأدب البوليسي التشويقي. وأغاثا كريستي أتقنت التعامل مع هذا التشويق في كل أعمالها، لذا ما كان لها أن تخفق في هذا العمل. إذاً، تدور "المصيدة" في فندق متوسط يديره الزوجان الشابان مولي وجيل رالستون، بعد أن أنجز إعداده ليستقبل الزبائن. وعند بداية المسرحية يكون صاحبا الفندق وأربعة من النزلاء شبه محبوسين في داخله جراء العاصفة الثلجية الضاربة. وبعد أن ينضم إلى الجمع مسافر إضافي، يصل إلى المكان متزلجاً شرطي يخبر الحاضرين باحتمال أن ترتكب جريمة في المكان، بعد أن عثر على جثة سيدة تدعى مس مورين ليف، وبات يخامره الاعتقاد أن القاتل إما أنه موجود هنا، وإما أنه في طريقه إلى الفندق. في البداية يبقى الجميع بين مصدق ومكذب، لكن ذات لحظة تقتل في المكان واحدة من النزلاء وهي المدعوة مسز بويل. وهنا يحل اليقين محل الشك: إن القاتل موجود هنا بالفعل ولا شك أنه الآن يحضر لضربته المقبلة. فمن هو القاتل، إنه واحد من الموجودين فمن يكون؟ في البداية يحوم القسط الأكبر من الشك من حول الشاب كريستوفر فرن، الذي يشتبه في أن مواصفاته، وربما تصرفاته أيضاً، تتلاءم تماماً مع مواصفات القاتل المفترض كما ينقلها التحري تروتر، لكن إثر ذلك، ومن دون أن يبتعد الشك عن هذا الشاب يروح مطاولاً كل واحد من الحاضرين، بل يصل إلى رقبة صاحبي النزل أنفسهما.
وفي المشهد الأخير، وبشكل ينتمي تقليدياً إلى أسلوب أغاثا كريستي كما أشرنا، يجمع التحري تروتر الحاضرين، أو من تبقى منهم، بغية إماطة اللثام عمن يتبين له أنه القاتل الحقيقي. وكان ذلك بعد أن يكون قد نصب فخاً، سيكون القاتل هو أول من يقع فيه. وبالفعل يكون القاتل، كما سيتبين لنا في نهاية الأمر، هو الذي يقع في الفخ. أما المفاجأة فتكمن في أن ذلك الفخ يكشف لنا أن التحري تروتر ليس تحرياً على الإطلاق، بل هو القاتل نفسه.
الحقيقة أننا إذ نكشف في هذه السطور هوية القاتل، فإننا لا نكون قد خالفنا دعوات التكم، ذلك أنه، إضافة إلى كل ما سبق أن ذكرناه عن كشف اللغز في مطبوعات ومنشورات وغيرها، سبق للممثل والمخرج الإنجليزي كريستوفر فراي أن كشف الأمر من على شاشة التلفزة أمام عشرات ملايين المشاهدين. ومع هذا لم يتضاءل عدد حضور المسرحية منذ ذلك الحين، إذ تبين أن المتفرجين يقصدون المسرحية ليس لمعرفة من هو القاتل، بل لمعرفة كيف يتم التوصل إلى كشف هويته، ذلك أن المهم، في روايات أغاثا كريستي، وبصورة دائمة تقريباً، ليس معرفة الـ"من؟"، بل معرفة الـ"كيف؟" وأكسسوارياً معرفة الـ"لماذا؟" أيضاً. وفي هذه المسرحية تصل أغاثا كريستي إلى أعلى درجات الإبداع الكتابي في عرضها للكيفية والأسباب الكامنة وراء الجريمة، بصرف النظر عما إذا كان يمكن، أو لا يمكن، للمتلقين أن يخمنوا وهم لا يزالون في وسط العمل، أن هذا الذي أتى لينبههم من القاتل ليس في حقيقة أمره سوى القاتل نفسه. إنه الـ"لا متوقع" وقد أمكن تحديد إمكانية توقعه، في خبطة مسرحية جيدة، تأتي بعد أن يكون المتلقي قد شارك، مفكراً ومحللاً، طوال الوقت ومنذ ظهور أول الشخصيات في العمل، في السعي لمعرفة الحقيقة. ونحن نعرف أن قوة وسلطة الأدب البوليسي تكمن هاهنا، في هذا الإيقاظ لوعي القارئ، أو المتلقي بصورة عامة، وجعل تحريك فكره جزءاً أساسياً من لعبة التلقي، ناهيك بأن هذا النوع من الأدب يحمل في ثناياه عناصر أخرى مثل: سلطة المعرفة، إذ إن السلطة التي تمكن فاضح اللغز من السيطرة في النهاية إنما هي المعرفة التي يمتلكها مستنداً إلى عنصر السببية والاستقراء العقلاني.
ويقيناً أن هذا كله كان هو الذي أعطى الأدب البوليسي قدرته الفائقة على أن يكون أدباً عقلانياً، وأن يرتبط بعقلانية القرنين الـ19 والـ20. ونعرف هنا أن أغاثا كريستي، في الدور المعرفي السلطوي، الذي تسبغه على تحريها، وكما يفعل سلفها الكبير آرثر كونان دويل، في إسباغه سلطة المعرفة والعقل على تحريه شرلوك هولمز، إنما أسهمت مساهمة أساسية في ترسيخ جزء أساس من عقلانية القرن الـ20، مجتذبة نحو رواياتها وقصصها البوليسية، ومسرحيتها الشهيرة هنا، ملايين القراء والمتفرجين الذين كان أكثر ما يحلو لهم في التعامل مع أدب كريستي، إنما هو، ذلك القسط في التحدي العقلاني والمعرفي، الذي يبعثه هذا الأدب. وأغاثا كريستي (1890 – 1976) هي سيدة من كبار سادة هذا الأدب من دون منازع، ولا تزال رواياتها الشيقة تحتل حتى اليوم مكانة متقدمة جداً بين أكثر الكتب مبيعاً ومقروئية في العالم.