من حياة الفنان الكبير د. فاضل خليل
7-كانون الثاني-2023
صباح الأنباري
الشخصيات أو الشخوص المسرحية في أحسن تعاريفها هي تلك التي تشتغل على إمكانية الموائمة بين داخل الشخصية وبيئتها الخارجية ومن الجدير بمكان القول إنها تعمل على خلق التوازن المطلوب بينها وبين العالم ومن هنا يتضح لنا حجم الالتصاق والتداخل بين العالمين وتأثير أحدهما على الآخر سلبا أو إيجابا وقد ترك لنا التاريخ على مر الأزمان نماذج تفردت بسماتها التي لا يعلى عليها وبطرق تعاطيها مع الظروف المحيطة فكانت بارزة أو هكذا شاع وصفها وتوصيفها حتى باتت مميزة بأفعالها، ومتفوقة بسلوكها، وحركاتها، وعلاقاتها الاجتماعية وقد أشار عالم الاجتماع المعروف علي الوردي الى تلك المميزات في كتابه الموسوم (شخصية الفرد العراقي) قائلاً:
(شخصية الإنسان إذن تسبك في قوالب يصنعها المجتمع، ولذا نرى أبناء المجتمع الواحد متشابهين في كثير من صفاتهم الشخصية انهم يتفاوتون عادة في بعض دقائق الصفات العامة، تفاوتا يجعل لكل فرد منهم شخصيته الخاصة به)
وهذا هو عين ما أردنا من التفاوت والتمايز بين الشخوص في المجتمع المحلي والعالمي على حد سواء. وقد يأتي التميز المشار إليه على وفق تخصص الشخصية، وطبيعة ذلك التخصص. ونموذجنا هنا شخصية فنية تخصصت في المسرح منذ وقت مبكر من حياتها.
إنه الفنان المسرحي القدير د. فاضل خليل (1946-2017) والذي قرّبتني منه أيام الدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة يوم كنت طالباً في السنة الأولى وكان هو قد عاد بعد تخرجه في أكاديمية الفنون الجميلة كمعيد فيها وكان ممتلئاً بحماس كبير، ورغبة في تقديم العون لنا نحن الطلبة الجدد في هذه الكلية. وجدته إنساناً متواضعاً، وشاباً محبوباً، ومعلما جليلاً، قدم لنا أكثر من غيره من الأساتذة الأجلاء. ولم يكن فاضل خليل الأستاذ غريباً عنا فقد ألفنا وجهه في مسرحية شعبية كبيرة هي (النخلة والجيران) والتي منذها أحببنا شخصيته وتمنينا لو تتكرر مشاهدته في أعمال أخر.
منه تعلمنا حرفية المسرح، وعلى يديه تعرفنا على ستانسلافسكي كما ينبغي أن يعرف ومن تلك اللحظات بدأت قصتنا معه فبدأت أولى خطواتنا الواثقة نحو آفاق الفن المسرحي. اختارني كممثل في عمله الأول الذي أخرجه ضمن المنهج العام للأكاديمية وكان بعنوان (تألق جواكان موريتا ومصرعه) وهو من تأليف الكاتب الشهير بابلو نيرودا، ولا أدرى لماذا تم تجاهل هذا العمل ضمن قائمة أعماله المسرحية التي أخرجها لخشبة المسرح العراقي. ومما حدث على خشبة المسرح في ذلك العرض هو أن الممثلين جميعا كانوا منشغلين بأدوارهم على خشبة المسرح كمجاميع، حين تسلل المخرج فاضل خليل بمرونة الى الخشبة وكأنه أحد الممثلين. اقترب مني وكنت منشغلا بالسيدة التي كانت تمثل الى جانبي في هذا العرض (باهرة رفعت) هامساً في أذني: اذهب وافتح الباب التي نسي أحدهم فتحها ليدخل الممثل منها(سعد) بعد خروجه من الباب الخلفية للمسرح - وكان الرقص والفرح طاغ على جميع من في الحانة – تسللت الى الباب بحركة راقصة وفتحته ثم عدت لأتبوأ مكاني على الخشبة. عندما انتهى العرض بتصفيق جمهور النظارة بحماس وفرغت قاعة العرض إلا من الممثلين ذهبنا الى ناد قريب من مبنى الأكاديمية في الوزيرية وأخذنا مجلساً فيه وفي ذروة النشوة بالعمل المسرحي رفع المخرج الفنان فاضل خليل كأسه قائلاً: "اسمعوا هذا نخب صباح الأنباري" شرب الجميع النخب ولم يسأل أحد لماذا هذا التخصيص أو ما سره في تلك الجلسة. وكان نخب امتنان لا يمكن نسيانه باي شكل من الأشكال.
استمر المعلم فاضل خليل بسط الأمثلة الفنية أمامنا بشيء من التبسيط والتسهيل ليسهل علينا استيعابها وخاصة تلك التي تتعلق بستانسلافسكي و(طريقته) التي اشتهر بها عالمياً وكان يتوق الى تطبيقها علينا عملياً داخل قاعة الدرس التي يقع المسرح ضمنها. وهكذا استطاع بسهولة ترسيخ قواعدها في أذهاننا حتى أصبحت عصية على النسيان. وبدأت فعلا بتطبيقها عمليا في فرقة مسرح بعقوبة حين أقمنا مهرجانا مصغراً احتفاءً باليوم العالمي للمسرح وقد دعونا إليه الأستاذ إبراهيم جلال والأستاذ فاضل خليل وبعد تقديم عرضي المسرحي نهض الأستاذ خليل وقال الآن سنحكم بين العروض وفاجأه أحد مخرجي تلك العروص (سالم الزيدي زاعما أن ما قدم للمهرجان ليس بدافع المنافسة بل بدافع الاحتفاء فقط. بعدها عادا الى بغداد ليمارسا دورهما في الحياة المسرحية. وهكذا بتضافر جهود الأساتذة الكبار ودأبهم على ضخ المعلومات إلينا أستطاع بعضنا تجاوز سنين الدراسة بوقت قصير جدا فعلى سبيل المثال قمت أنا شخصياً بإخراج مسرحية لصالح فرقة مسرح بعقوبة للتمثيل ولم أكمل بعد سنتي الدراسية الأولى. واشتغل أقراني في الفرق المسرحية المعروفة مثل فرقة المسرح الفني الحديث مساهمين بعروض مهمة وان كانت أدوارهم صغيرة. أقول قولي هذا وانا لا أزال أتذكر رأي ستانسلافسكي في نجومية الممثلين القائل: لا يوجد دور صغير ودور كبير، بل يوجد ممثل صغير وممثل كبير. وهذا القول ذكرني بأداء الممثل الكبير فاضل خليل في أول مسرحية شاهدته فيها وهي (النخلة والجيران) كما ذكرت والتي تركت في نفوسنا أثراً كبيرا والتصقت بذاكرتنا الجمعية على مدى أزمنة طويلة فمن منا لا يتذكر الآن حسين ابن سليمة الخبازة ودوره وتألقه في تلك المسرحية التي فتحت أمامه آفاق المسرح وهو يمثل أمام نخبة راقية من نجوم الفن المسرحي العراقي مثل: يوسف العاني، وقاسم محمد، وزينب، وخليل شوقي، وناهدة الرماح. لقد كانت النخلة والجيران أولى المحطات التي قذفت به نحو الشهرة وفتحت أمامه أبواب الإبداع ليقدم أفضل تجاربه في التمثيل والإخراج، فاخرج ما يقارب العشرين مسرحية نذكر منها:
1. تألق جواكان موريتا ومصرعه تأليف بابلو نيرودا. 1974
2. في أعالي الحب تأليف فلاح شاكر1997
3. مئة عام من المحبة تأليف فلاح شاكر1995
4. مسرحية سدرا
5. مسرحية الشياح عن قصة الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل.
6. مسرحية خيط البريسم تأليف يوسف العاني.
7. مسرحية الملك هو الملك تأليف سعد الله ونوس.
8. مسرحية الباب القديم تأليف خليل شوقي
9. مسرحية حلاق أشبيلية تأليف الفريد فرج.
10. مسرحية هير وسترات تأليف غريغوري غورين 2000
11. مسرحية الرهان تأليف أنطون تشيخوف. إعداد وإخراج
12. مسرحية سالومي تأليف أوسكار وايلد إعداد وإخراج
هذا فضلا عن تمثيله في أعمال مسرحية جاوزت الثلاثين عملاً مسرحياً.
وبعد نيله شهادة الدكتوراه استمر في نهجه الأكاديمي ممثلاً ومخرجاً ومؤلفاً ومعداً للنصوص المسرحية والتمثيلية. لقد اختصت دراسته المقدمة لنيل الدكتوراه على فلسفة الإخراج والعلوم المسرحية من صوفيا 1985 ( (V.T. E.Sلقد اكتسب خبرات نظرية وعملية في المجالات المختلفة ومهد له انتماؤه السياسي ولوج آفاق إدارية ما كان لغيره الولوج إليها بسهولة، أتذكر مرة كان يجلس بصحبة الأستاذ إبراهيم جلال وكان الأخير يحدثنا عن دورنا كطلبة فن، واصفا إيانا كطبقة اجتماعية متجانسة فاعترضت بأدب جم على هذا التوصيف وذكّرت الأستاذ المحاضر أن الطلبة فئة اجتماعية وليست طبقة فاصرّ الأستاذ إبراهيم جلال على مخالفتي مما حدا بالأستاذ فاضل خليل التدخل موضحاً ومؤكداً وجهة نظري. كان الراحل الكبير فاضل خليل يكن لي حباً خالصاً وكنت أبادله المشاعر نفسها، وكان يمنحني صفة ربما لا استحقها فعلاً وهذا ما حدث مرة في العاصمة الأردنية عندما التقينا في مهرجان أيام عمان المسرحية في دورتها الثانية عشر وكان برفقة الأستاذ عقيل مهدي ولحظة شاهدني وانا أتقدم نحوهم قال بصوته الجهوري (أهلا بالأنباري العظيم) تلقيت الترحيب بتواضع مربك مع خجل طفولي طبعت عليه منذ وقت مبكر من حياتي وبعد الترحيب والتقبيل تحدثنا عن عرض مسرحية الأستاذ جواد الأسدي(حمام بغدادي) التي كانت ضمن منهاج المهرجان ومثل فيها من سوريا الفنان القدير فايز قزق ونضال سيجري، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي رأيته فيها محبطاً بعض الشيء جرّاء ما حدث في العراق ولم أسمع عنه شيئاً الى حين وفاته في بغداد عام 2017 وقد أحزنني مرأى جثمانه -على شاشة التلفاز- وهو يشيع بحزن عراقي عميق. لقد رحل عنا بجثمانه، ولكن أفكاره وآثاره الفنية لا تزال تذكرنا به وبحضوره الجميل. وستظل صورته مشرقة بابتسامته التي لم تفارقه يوما وبتفاؤله الذي لم يتوقف عند حد معين حتى يوم رحلته الأخيرة.