ميلان كونديرا يبرئ فرانتز كافكا من «لوثة» الأيديولوجيا
19-حزيران-2025

إبراهيم العريس
في الواقع أن صديق فرانتز كافكا الذي كلفه هذا الأخير بتنفيذ الوصية الوحيدة التي كان يتطلع إلى تنفيذها بعد موته واستنكف الصديق عن ذلك التنفيذ، ونعني به ماكس برود الذي في زمن لاحق على موت كافكا في عام 1924 هاجر إلى فلسطين حيث بدلاً من إحراق كل ما تركه كافكا من كتب ونصوص بناء على تلك الوصية، راح يتاجر بها وينشرها مضفياً على صديقه الراحل صفات يهودية – صهيونية لم يبرأ منها هذا الأخير حتى اليوم، هذا الصديق هو بالتأكيد واحد من أكثر الأسماء التي تخطر في البال لدى أي ذكر لكافكا. أما العبارة الأشهر التي تخطر بدورها في البال فهي تلك التي، بعد رحيل كافكا بـ22 عاماً، حملها عنوان تساؤلي لموضوع نشرته مجلة "آكسيون" التقدمية الفرنسية يتناول موقفاً بدت شيوعيته تجاه أدب كافكا نفسه واضحة. والعبارة هي "هل ينبغي إحراق كافكا؟".
ونعرف طبعاً أنه بمقدار ما بقيت "فعلة" برود مستهجنة بالنسبة إلى كثر ومحمودة بالنسبة إلى آخرين، وفي الحال الأخيرة كونها أنقذت ذلك الأدب الكبير من الزوال الذي طلبه صاحبه، حدث للعنوان التساؤلي المذكور حول إحراق كافكا موضع أخذ ورد ومحاكاة واستعارة وقبول ورفض حتى اليوم. وفي الحالين كان ولا يزال ثمة على الدوام شبح محدد يطل برأسه هو، وبالتحديد، شبح الأيديولوجيا أو ما سيتحدث عنه لاحقاً الكاتب التشيكي ميلان كونديرا باعتباره تحميلاً لكافكا بأكثر مما يحتمل وهو الذي كان يتسم دائماً بهشاشة تجعله أضعف من أن يتصدى لذلك الحمل، ولرهافة تجعله أهم من حامل لأية أيديولوجية بسنوات ضوئية، لا سيما لتلك الأيديولوجية التي لم يتورع ماكس برود، الصهيوني حتى العظم، عن إلباسها لصديقه الراحل مستشهداً بتفسيرات لعمله لا شك أن كافكا إنما طلب حرق كل ما كتبه لأنه كان في الأصل يخشى أن يدفع في غيابه للبسها. ما يحق للمبدع: وهي على أية حال "خشية" استغيبت صاحب "المحاكمة" و"القصر" بقوة جعلت كونديرا يتصدى في نص نشره قبل أعوام في كتابه "ثلاثية فن الرواية" إلى التصدي لكل محاولة لـ"أدلجة" كافكا، تماماً كما سبق أن فعل جورج باتاي منذ نهاية سنوات الـ40 في رده الساخر على سؤال حرق كافكا. فبالنسبة إلى كونديرا لا معنى للسؤال تماماً كما أنه لا معنى للمجهود الذي بذله ماكس برود. وذلك لمجرد أن كافكا لا يمكنه أن يكون سوى مبدع كبير، "شاعر" بمعنى من المعاني. ومن ثم فإن أدبه يجب أن يتم التعامل معه بمعزل عن أي ارتباط آخر. ويقيناً هنا أن كونديرا يتحدث عبر ذلك التأكيد عن أدبه الخاص، عن تصوره هو نفسه لدور الإبداع الذي حتى وإن كان يتسم بفاعلية ما فإنها لا ينبغي أن تعد فاعلية أيديولوجية وإلا لفقدت مبررات وجودها القائمة على عنصر أساس مزدوج الهوية، كسؤال لا ينتهي، من ناحية، وكحرية تقوم لعبة التعبير الإنساني على مسعى متواصل للوصول إليها. وفي رأي كونديرا أن القيمة الكبرى والجوهرية لأدب كافكا، المرتبط بذاتيته بقدر ارتباطه ببيئته ومجتمعه، تكمن في ذلك البعد ذي الرأسين. ومن الواضح هنا بالنسبة إلينا أن ما يحرك فكر كونديرا هنا ليس سوى اهتمامه الدائم بالتذكير باستقلالية الفن المطلقة تجاه ما هو سياسي أو حتى اجتماعي بصرف النظر عن الفاعلية التي قد يلعبها، بإرادة الفنان أو خارج نطاق إرادته، في حياة المجتمع، بل حتى في نضالات فئات تغييرية تنتمي إلى ذلك المجتمع.
وفي هذا السياق يرى كونديرا، منطلقاً من "حالة فرانز كافكا"، ليصب في ما يتعلق بحاله هو الشخصية من المهم الدنو من واقع أن "الفنان – والروائي من باب أولى، يشتغل في ليله ونهاره على صياغة أشكال فنية بالغة التعقيد بحيث أنها لا ترتدي محمولاً معيناً أو دلالة سياسية، إلا انطلاقاً من استقلاليتها، وليس بالتأكيد انطلاقاً من كون الفنان قد سعى أصلاً لفرض ذلك المحمول أو التعبير عن تلك الدلالة متعمداً. وهنا بالتحديد يستند كونديرا إلى ما قاله كافكا يوماً في يومياته: "إن كل ما ليس أدباً يثير ضجري بشكل قاطع"، معلناً بذلك وبحسب ما أكد عدد من أفضل محللي عمله، ومنهم باتاي نفسه ومارث روبير، رغبته في أن يعامل كمبدع لا كأي شيء آخر على الإطلاق. وهذا الواقع الذي يعبر عنه كونديرا بقدر كبير من البساطة، لا يمنعه من أن يخبرنا بعد ذلك، على الفور بأن "اللقاء (الذي يجدر بنا أن نرصده) بين العالم الواقعي للدول التوتاليتارية من ناحية والشاعرية الكافكاوية من ناحية ثانية، يمكن اعتبار الأمر الأكثر غموضاً في هذه اللعبة التعبيرية بأسرها. وهو يشهد أمامنا على أية حال بكون الفعل الشعري الذي يمارسه الشاعر أمر لا يمكن له أن يقاس بالمسطرة والقلم فهو في مطلق الأحوال يحفل بالتناقض، إذ إن المحمول العظيم اجتماعياً وسياسياً و"تنبئياً" الذي يطغى على روايات كافكا، يكمن تحديداً في "خروج كافكا عن أي التزام" أي، ولا بد من تكرار هذا هنا: في استقلاليته التامة عن أية برامج سياسية ومفاهيم أيديولوجية وفرضيات مستقبلية. ويخلص ميلان كونديرا هنا إلى إخبارنا بأنه لو "حدث للشاعر، بدلاً من أن يسعى في كتابته إلى البحث عما هو شاعري كامن في مكان ما في خلفية إبداعه، إن التزم بخدمة حقيقة معروفة سلفاً (حقيقة تطرح نفسها في وضوحها وفي كونها جلية لا تحتاج إلى مزيد من التنقيب)، سيكون في حقيقة أمره قد تخلى عن مهمته الخاصة كشاعر. ولا يهم كثيراً هنا أن تحمل الحقيقة المصاغة سلفاً اسم ثورة أو انشقاق، إيماناً أو لا إيمان، أو أن تكون عادلة أو أقل عدلاً. فالشاعر الذي يضع نفسه في خدمة حقيقة أخرى غير تلك التي يتعين عليه اكتشافها (في لعبة انبهار مطلق) ليس سوى شاعر مزيف". وهو قول يختمه صاحب "خفة الكائن التي لا تحتمل" بشيء من العودة إلى نفسه قائلاً "ولئن كنت أنا أتمسك بقوة بإرث كافكا، وأدافع عنه وكأنه إرثي الشخصي، فما هذا لأنني أعتقد أن من المفيد محاكاة ما لا يحاكى بأية حال من الأحوال (معيداً مرة أخرى ومن جديد اكتشاف الكافكاوي في داخلي) بل، لأنني دائماً ما أتوق إلى مجابهة هذا النموذج الرائع من نماذج الاستقلالية الكلية للرواية (للشعر الذي هو جوهر الرواية) الاستقلالية التي بفضلها فحسب، قال فرانتز كافكا عن شرطنا الإنساني (كما يتكشف في عصرنا) ما لا يمكن لأي تفكير سوسيولوجي أو سياسي أن يقوله...".

السفارة الأميركية حول رواتب الحشد: على المؤسسات المالية معرفة عملائها وانتماءاتهم
3-تموز-2025
مساع وزارية لخفض التراكيز الملحية في البصرة
3-تموز-2025
7900 مرشح لانتخابات البرلمان
3-تموز-2025
نصب كاميرات مراقبة سرعة المركبات في بغداد
3-تموز-2025
ذا ناشيونال تتساءل: حياد محسوب أم مؤشّر على تبدّل موازين القوى؟
3-تموز-2025
شلل تشريعي في البرلمان.. الدورة النيابية الخامسة تلفظ أنفاسها الأخيرة
3-تموز-2025
ذا ناشيونال تتساءل: حياد محسوب أم مؤشر على تبدّل موازين القوى؟
3-تموز-2025
الإعلام الحكومي: اعتماد الدفع الالكتروني يستند لرؤية حكومية في تطوير التعاملات المالية
3-تموز-2025
ليبيا تعرب عن استعدادها لتعزيز التعاون مع العراق في قطاعي النفط والطاقة
3-تموز-2025
حين يصبح النفط طوق نجاة ومصدر تهديد هشاشة الموازنة العراقية تحت المجهر
3-تموز-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech