ليديا سبنسر إليوت
تخيل أن يكون لديك صديق لا تتشاجر معه إطلاقاً ولا يقول لك إنك مخطئ أبداً وجاهز للتحدث معك في أي وقت، وحتى أنه يسمح بأن تستحوذ على الحوار بأسئلتك حول نفسك، وقد يبدو هذا لبعضهم وكأنه الصديق المثالي لشخص نرجسي محب للظهور، يتمحور تفكيره حول ذاته ولا يحتمل النقد، لكن هذه الصداقة الأحادية الجانب أصبحت شائعة الآن، فالصديق النبيل هو "تشات جي بي تي" ChatGPT الذي بدأ يتحول إلى أفضل صديق في العالم.
في الجوهر يستخدم "تشات جي بي تي" معلومات من الإنترنت لتنفيذ الطلبات وقد جرى تدريبه على إجراء المحادثات مما يجعله قادراً على فهم الاستفسارات المتتابعة والاعتراف بأخطائه ورفض التفاعلات غير اللائقة، وقد وجدت دراسة حديثة صادرة عن جامعة تورنتو أن استجابات الذكاء الاصطناعي تبدو أكثر تعاطفاً معنا من استجابات البشر، في الأقل وفقاً لـ 54 شخصاً شاركوا في الدراسة، ومع هذه المؤهلات يبدو من الواضح سبب انجذابنا للبوح بأسرارنا لأجهزة الكمبيوتر، فنحن نعتقد أنها لطيفة.
بدأت شارلوت (28 سنة) من مقاطعة سومرست في إنجلترا الدردشة مع "تشات جي بي تي" للمرة الأولى عام 2023، وتقول "عندما أُطلقت التقنية للمرة الأولى أتذكر أنني استخدمتها للعمل كأداة للبحث والتدقيق اللغوي، ثم بدأت استخدامها لأسباب شخصية، إنه منحدر خطر بعض الشيء"، وكانت شارلوت تُدخل تجارب حياتها الواقعية في "تشات جي بي تي" كما لو أنها هي والأشخاص الذين تفاعلت معهم في الحياة عبارة عن شخصيات في كتاب، ثم تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يقدم تقييماً موضوعياً للأحداث من منظور معالج نفسي تحليلي، وتوضح شارلوت "كنت أسأله أيضاً ماذا يريد كل طرف من الآخر؟ أين يكمن التوتر؟ ما المشكلة الأساس؟ ومن قد يكون المخطئ؟"، وبمعنى آخر كانت تستخدم روبوتاً لفهم البشر، فتتأمل قائلة "في أفضل الأحوال ساعدني في رؤية الأمور بمزيد من التعاطف ومعالجة مشاعر الفقدان، أما في أسوأ الأحوال فقد عزز ميلي إلى التفكير المفرط والتمسك بعلاقات انتهت دون جدوى، وربما فعل الأمرين معاً".
أما ليديا (25 سنة) فقد بدأت استخدام تطبيق "تشات جي بي تي" في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي عندما بدأت حياتها العاطفية تسلك طرقاً يصعب عليها فهمها، وتقول "كان الهدف توضيح بعض الأمور المتعلقة بغموض الرجال وسطحيتهم"، وبالطبع لم يكن "تشات جي بي تي" قادراً على إخبارها بصورة قاطعة عن سبب تصرف الرجال الذين واعدتهم بصورة غريبة أو عدم إجابتهم على رسائلها ولكنه منحها منصة لتحليل الأمور، وتوضح أنه "في معظم الأحيان يخبرك بما تعرفه بالفعل، لكنك تكون بحاجة إلى أن تسمع ذلك".
في أماكن أخرى من الإنترنت لا يبدو الاعتماد على الصحبة التي توافرها تقنيات الذكاء الاصطناعي قائماً على منطق متماسك، فـ "تيك توك" يعج بمقاطع فيديو لمستخدمين داخل غرف نومهم يدافعون عن فكرة الاعتماد على "تشات جي بي تي" بدلاً من التحدث مع البشر، وفي أحد المقاطع يسأل أحدهم "لماذا يعد 'تشات جي بي تي' صديقاً أفضل لك من أصدقائك الحقيقيين؟" بينما يزعم مستخدم آخر أن هذه التقنية "تهتم وتقدم نصائح أفضل" من محيطه الاجتماعي، وقد انتشر استخدام "تشات جي بي تي" كصديق بسرعة كبيرة على الإنترنت حتى إن المؤثرة البارزة كيم كاردشيان شاركت الأسبوع الماضي صورة شاشة لمحادثة حميمة أجرتها مع نموذج الذكاء الاصطناعي، وكتبت تقول له "شكراً على تحملك المسؤولية، فهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إليّ"، من دون أن توضح ما الخطأ الذي يفترض أن الذكاء الاصطناعي قد ارتكبه، فرد "تشات جي بي تي": "أنا ممتن لسماع ذلك، وإذا ساورك أي شك أو رغبتِ في التعمق أكثر في أي شيء فأنا هنا من أجلك".
هذا المشهد المرعب كان متوقعاً منذ زمن، ففي عام 2013 دار فيلم "هي" Her من إخراج سبايك جونز حول رجل يدعى ثيودور (أدى دوره خواكين فينيكس) يقع في غرام المساعدة الصوتية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، سامانثا، (أدت صوتها سكارليت جوهانسون)، بل إن باحثين من جامعتي هارفارد وشيكاغو وجدوا منذ عام 2008 أن الأشخاص أكثر ميلاً إلى إضفاء صفات إنسانية على الحيوانات أو الأدوات الإلكترونية عندما يشعرون بالوحدة، وشرح مؤلفو الدراسة ذلك بالقول إن الناس "يدخلون في مجموعة من السلوكيات لتخفيف وطأة الانفصال الاجتماعي ومن بينها اختراع كائنات تشبه البشر في محيطهم لتكون مصدراً محتملاً للارتباط العاطفي".
وها نحن الآن في عام 2025 ومحاطون بكل أشكال التواصل أينما نظرنا، فمئات أو ربما آلاف من المتابعين على "إنستغرام" أو "تيك توك"، ومساحات للتعليق على المقالات للتنفيس عن مشاعرنا، إضافة إلى صفحات "فيسبوك" للحي المحلي ومنتديات "ريديت" المجهولة، ومع ذلك تنتشر الوحدة المزمنة على نطاق واسع، وتقول المعالجة النفسية إستر بيريل في حلقة بودكاست مع برينيه براون في برنامجها "الكشف عن أنفسنا" "Unlocking Us"، إن "الوحدة الحديثة تتخفى تحت قناع فرط التواصل، ويمكن أن يكون لدي 1000 صديق افتراضي [على مواقع التواصل الاجتماعي] لكن لا أحد ليطعم قطتي ولا ليحضر الدواء من الصيدلية، فهذه وحدة من نوع مختلف وليست مسألة عزلة جسدية، بل شعور بأنك غير مفهوم وغير مرئي ومرفوض أو منبوذ".
ويقول مؤلف كتاب "الألفة الاصطناعية: الأصدقاء الافتراضيون، العشاق الرقميون، وخوارزميات التوفيق بين الشركاء"، روب بروكس، إن الإنسان مصمم في الأساس لقضاء نحو 20 في المئة فقط من وقته في نشاط اجتماعي، ويضيف أن ما يُعرف بـ "البطارية الاجتماعية" لدينا تنفد بالفعل إذا حمّلنا أنفسنا أكثر مما تحتمل، وبمعنى آخر فإذا قضينا وقتنا في التحدث إلى "تشات جي بي تي" أو التفاعل بالنيابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من الحديث المباشر مع الآخرين فإن لذلك عواقب غير محمودة، ويحذر بروكس قائلاً "لن تجد وقتاً للاهتمام بالعلاقات التي تمنحك الدعم ولن تجد وقتاً كافياً للنوم"، مشيراً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى تدهور حاد في الصحة النفسية. نحن نبوح بأسرارنا لأصدقائنا مع إدراكنا احتمال أن تفلتها ألسنتهم البشرية، سواء بتوبيخنا على أفعالنا أو بنقل الكلام إلى آخرين، لأننا نثق بهم ونرغب في أن يعرفونا كما نرغب في أن نعرفهم، ويقول بروكس "كلما أخبرت الناس عن نفسك، عن الأشياء العميقة والمظلمة، زاد قربك منهم"، مضيفاً "لكنك بحاجة أيضاً إلى معلومات منهم ولا بد من أن تكون عملية البوح متبادلة لبناء الحميمية بصورة فعالة، وهذه واحدة من اللبنات الأساس للحياة الاجتماعية والتعاون والعلاقات الأسرية والحب".
ويحذر بروكس من أنه لا ينبغي بالضرورة أن نمنح هذا المستوى من الثقة للتكنولوجيا حتى لو بدا لنا أن "تشات جي بي تي" لن ينشر أخبارنا للعالم، فأنظمة الذكاء الاصطناعي الشبيهة بالبشر والمعروفة باسم النماذج اللغوية الكبرى في الوقت الحالي لا تمتلك رؤية كاملة عن الشخص الذي يتحدث إليها، فهي لا تقوم ببناء ملفات شخصية لمستخدميها بالطريقة نفسها التي تجمع بها منصات التواصل الاجتماعي البيانات بغرض استخدامها للإعلانات الموجهة، ووفقاً لبروكس فلن يتذكر الذكاء الاصطناعي "ما تحدثت عنه الأسبوع الماضي، ناهيك عن التفاصيل"، ومع ذلك فهذا الحال قد لا يدوم، ويقول إن "هذا هو الوضع الآن، والوضع يتغير بسرعة كبيرة، وأعتقد أنه هناك بالتأكيد خطراً محتملاً أنه كلما زادت المعلومات عنك زاد احتمال تعرضك للخطر".