يعيش اعمى خير من أن يموت مجنون
17-أيار-2023
رسل عباس
على كرسي خشبي تتخللهُ الرطوبة جلستُ وسط غرفة المعيشة المظلمة التي تكاد تخلو من الأثاث عدا حصيرٍ بالٍ يغطيها، تحيطني الأذرع والأيدي وتَلُفُ وجهي بالقماش والاصوات الخافتة تردد "يعيش اعمى خير من أَن يموتَ مجنون" .
بَدَتْ كلمة يعيش مفردة مبهمة المعنى بالنسبة لي ولا أظن ايا من افراد عائلتي يفهمها كذلك، يقصدون بها النَفَسَ والاكل والشرب لكن تَعُزُ عليَّ قناعتي لأهبها لفكرة سطحية ساذجة كهذه.
ان ما ادى بي لموقفي هذا هي نملة .
وليست نملة محددة ... انما النمل .
نشأت في منزل يفوق عدد الاطفال فيه عدد النمل وبعد سلسلة من الاخوة والاخوات كنت الاخير ، حين حان دوري اصبحت ولادة روح جديدة في هذا المنزل حدث لا جديد فيه ولا قيمة له فَلَمْ يُحْفَل بمولدي تماماً كما لا يُحْفَل بحياتي .
في حين كانت اقدام إخوتي الكبار تدهسني وجدت ان اقرب ما لي في هذا المنزل هو النمل الذي يسكن زواياه فدهسته بينما راقبتني امي من بعيد بلا مبالاة تنتظرني اكبر لاصبح شخص آخر ، وهو ما لم يحدث . كبرتُ ليتحول ذلك الشعور الخافت بالقوة الناتج عن لحظة سحق الحشرات تحت اقدامي الى ادمان ثم هوس ففقدتُ السيطرة واصبح الامر جنون خارج عن ارادتي ، الاحق النمل في اغرب الاماكن وكأني الاحق اوتار حياتي لعلي احكم السيطرة عليها ، وهذا ما كاد يقتلني في كثير من الاحيان .
وهذا ايضا ما ادى بعائلتي لقرار سلبي هبة النظر "يعيش اعمى خير من ان يموت مجنون"
فربطوا عيناي على امل ان عدم رؤيتي للنمل يضع نهاية لهوسي بدهسها .
عندما لم اجد مخلوق اضعف مني لأدهسه ادركتُ إن الضعف الحقيقي يقبع في داخلي اذ إن هوسي هذا نابع من افتقاري للاحساس بالقوة وهذا الهوس مزقني حتى مزقت جلدي عن جسدي على تلك الحصير في تلك الغرفة اقتلعت اشلائي بيدي حتى جف دمي ، خلال ليلة قد تبدو هادئة لكنها صخبت باصوات الحشرات تتغنى بترنيمة الحياة الضائعة .
في صباح اليوم التالي استيقظتْ امي وطَوَتْ الحصير على جثتي الممزقة فوقه ثم جرته خلفها وصولاً لحاوية القمامة، إذ بدا الحصير أقل قيمة من ان يستحق عناء محاولة إزالة الدم منه كما كانت جثتي اقل قيمة من ان تُلمَسَ او تُغسَل او تُدفَن.
النهاية..