يوم انضم ريلكه إلى الجيش النمسوي في الحرب العالمية
26-تموز-2023
إبراهيم العريس
في كتاب ذكرياته "عالم الأمس"، الذي ختم به حياته الإبداعية تقريباً، وأنجزه قبل فترة من انتحاره وزوجته في البرازيل، صفحات رائعة يصور فيها صاحب "حذارِ من الشفقة" و"24 ساعة من حياة امرأة" الروائي وكاتب السير النمسوي ستيفن تسفايغ الذي كان وظل حتى النهاية واحداً من قلة من المبدعين المناوئين للحرب ولكل الحروب، عن ذلك الحماس القومي الأحمق الذي استبد ببلده النمسا قبل وخلال الأشهر الأولى لاندلاع الحرب العالمية الأولى.
وهي صفحات تلوح منها المرارة ماثلة بشكل بالغ الدلالة خصوصاً أن تسفايغ كتبها قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة معبراً فيها عن غضبه لكون الناس لا يتعلمون دروس الماضي. وبشكل أكثر تحديداً لأن المثقفين أنفسهم الذين يفترض أن يكونوا طليعة أخلاقية في مجتمعاتهم والعالم، يرتمون مخدوعين وسط ذلك الحماس الجماهيري الأرعن ناسين كل ما يكتبونه ويفكرون فيه ليغرقوا في نزعات "حربجية" لا يدركون سلفاً أنها ليست أكثر من قتل مجاني وليست سوى تعرض للقتل يستفيد منه السياسيون والعسكريون ومصانع الأسلحة، ويدفع الإنسان ثمنه.
ولئن كان تسفايغ يثمن غالياً مواقف زملاء له غالبيتهم تنتمي إلى أمم "معادية"، وعلى رأسهم طبعاً رومان رولان الذي عاش خلال الحرب في سويسرا المحايدة مناضلاً ضد الحرب، فإنه يبدي ذهوله في المقابل أمام ما راح يلاحظه في النمسا نفسها.
تعطلت لغة الكلام: وهو يخبرنا بالتالي عن ذلك الجنون الذي بات يجعل "من المستحيل أن تجري حديثاً معقولاً مع أي واحد خلال الأسابيع الأولى من الحرب". فلقد "أسكرت رائحة الدماء أكثرهم مسالمة وأكرمهم طبعاً".
كما يخبرنا الكاتب موضحاً أن "الأصدقاء الذين كنت أعتبرهم ذوي نزعة فردية محددة، وحتى فلاسفة فوضويين، تحولوا بين ليلة وضحاها إلى وطنيين متعصبين، ومن وطنيين إلى تواقين إلى إلحاق النمسا بألمانيا".
ومع هؤلاء وكما يخبرنا تسفايغ (بحسب الترجمة العربية للكتاب التي أنجزها بتوفيق متفاوت السوري عارف حديفة)، "كانت كل محادثة تنتهي بعبارة سخيفة مثل (من لا يكره لا يحب) أو بتجريم فظ. والرفاق الذين لم أتنازع معهم مدة طويلة اتهموني اتهاماً قاسياً بأنني لن أعد نمسوياً. فلم لا أنتقل إلى فرنسا أو بلجيكا؟"، وكان يتلو ذلك تحذيره من أن موقفه يجب تحذير السلطات منه لأن "الانهزاميين أسوأ خونة للوطن".
موقف ريلكه الغريب
وإذ يورد تسفايغ في سياق حديثه عدداً من أسماء كتاب راحت مواقفهم المتعصبة الجديدة تدهشه، نراه يتوقف مطولاً عند واحد من أقرب أصدقائه إليه هو الشاعر راينر ماريا ريلكه.
والحال أن توقف تسفايغ عند ريلكه لم ينتج من كونه صديقه الأقرب إليه في ذلك الحين، وسيظل كذلك دائماً على أية حال، بل عن كون كل ما في حياة ريلكه وشخصيته وشعره ونثره يقف موقف التعارض مع تلك النزعة "القومجية" التي استبدت بالجسم الثقافي والإبداعي النمسوي أمام جسامة الظروف الطارئة الجديدة.
من هنا يصف تسفايغ دهشته، بل رعبه حين طرق بابه ذات مساء، بينما هو غارق في حزنه على ما يحدث، فسارع بفتح الباب ليجد الطارق الواقف أمامه جندياً يكاد يرتجف وجلاً.
بسرعة فهم تسفايغ سبب وجل "الجندي". فهو لم يكن سوى راينر ماريا ريلكه نفسه "متنكراً في ثياب العسكر". وكان تسفايغ يعرف أن صديقه جند منذ فترة، لكنه ها هو يستمع إليه الآن يخبره أنه لم يعد يطيق ما يحدث له. وكان ريلكه يتكلم بحسب وصف تسفايغ وعلى وجهه "نظرة بالغة الحرج" و"كانت ياقته العسكرية مشدودة للغاية كما يليق بأي جندي محترف. غير أنه سيقول لصديقه كلاماً آخر تماماً لا يوحي به "تنكره" على أي حال.
ارتباك شاعر أصيل
قال ريلكه لتسفايغ إنه بات يشعر بقدر كبير من الارتباك منذ صار جندياً يضطر إلى إلقاء التحية على كل ضابط يمر به وضرب كعبي حذاءيه في كل مرة يتوجب عليه ذلك.
ويخبرنا تسفايغ هنا أن ريلكه لم يكن مضطراً إلى ممارسة تلك "الطقوس" من ناحية مبدئية، لكنه بات يفعلها "انطلاقاً من أن نزعته إلى الكمال كانت دائماً قوية، لذلك رغب في تأدية تلك القاعدة التافهة على نحو يحتذى به قدر الإمكان".
من هنا، وبحسب ما نقل تسفايغ عنه، ألفى ريلكه نفسه في اضطراب متواصل وأسر إلى صديقه قائلاً، "لقد كرهت اللباس العسكري منذ خدمتي الإجبارية في الأكاديمية العسكرية حين كنت شاباً. واعتقدت أني تخلصت منه إلى الأبد. وها هي الحرب الآن تجبرني على العودة إليه وأنا مكتهل أقارب الأربعين".
ومهما يكن من الأمر هنا فإن تسفايغ يخبرنا أن ريلكه سرعان ما وجد في الأيام التالية من يساعده ويحميه، إذ صرف من الخدمة بعدما أجري له فحص طبي، بيد أن تسفايغ يخبرنا أن ريلكه لم يخض في الحقيقة أي قتال، ولو أن حكايته مع العسكر بدأت بحماسه الشديد لخدمة وطنه أسوة بمعظم المثقفين والكتاب والفنانين النمسويين، وعلى العكس من قلة قليلة لم تشأ ذلك بينها تسفايغ نفسه. فلما قصد الإدارة العسكرية لعرض خدماته متطوعاً عين موظفاً في أرشيف الحرب، ولكن المشكلة كمنت في أن وظيفته تلك استدعت منه ارتداء اللباس العسكري.
زيارة ثانية
مهما يكن، يخبرنا تسفايغ أن ريلكه عاد إلى زيارته مرة أخرى بعد ذلك اللقاء الليلي المحزن والمثير، والذي سيكتب تسفايغ أنه قد أضحكه كثيراً ليس شفقة على صديقه فحسب، بل على النمسا بأسرها. وفي الزيارة الجديدة بدا ريلكه مشرقاً هادئاً ومبتسماً، خصوصاً أنه كان هذه المرة يرتدي اللباس المدني. وفي الزيارة الجديدة، بحسب تسفايغ، إنما أتى الشاعر "ليشكرني على بادرتي لإنقاذ مكتبته" التي كانت السلطات الفرنسية قد صادرتها في شقته الباريسية بوصفه "عدواً لفرنسا"، وهي بادرة أسهم فيها رومان رولان الذي لم يكن ينظر إلى الناس بوصفهم أعداءً. وخلال تلك الزيارة الجديدة لاحظ تسفايغ للمرة الأولى أن "ريلكه لم يعد شاباً "وكأن فكرة ذلك الهول كله أضنته على رغم أنه بالنسبة إليه لم يدم طويلاً". غير أن المؤسي بالنسبة إلى ريلكه كمن في ما عبر عنه قائلاً متنهداً "الخارج. لو أن في إمكان المرء أن يسافر إلى الخارج... فالحرب سجن كبير على الدوام".
قال ريلكه هذه العبارة بحزن ثم غادر، "فعدت مرة أخرى إلى وحدتي"، يضيف تسفايغ هنا قبل أن يخبرنا أنه هو نفسه ما لبث بعد ذلك بأسابيع أن قرر الفرار من ذلك الذهان الجماعي الخطر، مكتفياً أول الأمر بالانتقال إلى بيت في ضاحية ريفية تقع بعيدة بعض الشيء عن فيينا "للشروع في حربي الخاصة ضد الحرب، والنضال ضد خيانة العاطفة الجماعية السائدة للعقل".
منافٍ متعاقبة
والحقيقة أن ذلك التحرك الأول سيقود ستيفان تسفايغ إلى سلسلة متعاقبة من المنافي، لا سيما إلى فترة طويلة يقضيها في سويسرا بين زيوريخ، حيث شهد التقديم الأول على مسارحها لمسرحيته "إرميا" التي كانت صرخة مدوية وإنسانية ضد الحرب كتبها من وحي ما رصده من نزعة "حربجية" و"قومجية" سادت الحياة الثقافية، ولكن ليس فقط في النمسا، بل في كل البلدان الأوروبية المتقاتلة والمتعادية.
بين جنيف التي قصدها ليلتقي رومان رولان المبدع الأكبر في نظره، الذي أعاد له ثقته بشرف الإبداع، لا سيما عبر نصه "فوق المعمعة" الذي شاءه أن يكون برنامج عمل لمثقفين ومبدعين أوروبيين يشاركونه ويشاركون تسفايغ بالتالي موقفهما المعادي لـ"حيوانية" الحروب كل الحروب، لكن المشروع لم يرَ النور، حيث إن ضروب التعصب والكراهية كانت لا تزال حينها قوية ومنتشرة، لكن هذه حكاية أخرى من الواضح أن حكاية راينر ماريا ريلكه لم تكن سوى نوع من التمهيد لها.