سناء عبد العزيز
هذه المفارقة بين حضوره الجماهيري وغيابه النقدي في العالم العربي، تلزمنا في ذكرى ميلاده التي توافق هذا الشهر، بإعادة النظر في إرثه الأدبي، لا ككاتب مغامرات مدهشة فحسب، بل كمهندس بارع في بناء السرد، سبق بعقله الإنتاجي زمنه، وكتب بعين سينمائية قبل ولادة السينما نفسها.
في أحد بيوت قرية فيلييه - كوتره، شمال باريس، ولد ألكسندر دوما عام 1802 لأب استثنائي وأم متواضعة. كان والده، الجنرال توماس - ألكسندر دوما، ابن عبد من جزيرة سان دومينغ (هايتي حالياً)، ولكنه عرف بشجاعته اللافتة حتى لقب بـ"الأسود العظيم". وسرعان ما ارتقى في صفوف جيش الثورة الفرنسية، ليصبح أول جنرال داكن البشرة في تاريخ فرنسا. غير أن القدر، أو لعله مزيج من الحسد والخبث، ساقه إلى صدام مع نابليون، فجرده من منصبه، وألقاه في غياهب السجن، وتركه عرضة للمرض والنسيان، حتى مات بحسرته عام 1806، وألكسندر لم يبلغ عامه الرابع بعد.
على أطلال هذا المجد المتداعي، نشأ ألكس، وورث عن والده لون البشرة ومرارة الخذلان. وكان طبيعياً أن يلازمه هذا الإرث الثقيل، فالماضي، شئنا أم أبينا، لا يكف عن ملاحقتنا. ولعله لهذا تحديداً، دخل الأدب مدفوعاً بحنين إلى رد الاعتبار، لا لعائلته وحدها، بل لكل من طمست بطولته، وشطبت أعماله من سجل التاريخ.
انتقل دوما إلى باريس من دون أن يكمل دراسته، لكن خطه الجميل فتح له أبواب العمل ككاتب بسيط في البلاط الملكي. وهناك، في قلب العاصمة الصاخبة، اكتشف شغفه بالمسرح. وما لبثت مسرحيته الأولى "هنري الثالث ومحكمته" 1829، أن حققت نجاحاً هائلاً، تبعتها أعمال مثل "كريستين وأنطوني"، لترسخ مكانته بين رموز الحركة الرومانسية الصاعدة. بهذا الحس المسرحي اقتحم عالم الرواية، مسلحاً بالرغبة ذاتها في الإنصاف، لكن هذه المرة عبر شخصيات متخيلة تهب العدالة بأيديها، ولا تنتظرها من السماء.
في عام 1844، صدرت "الفرسان الثلاثة"، الرواية التي أعادت صياغة البطولة في عالم يعج بالمكائد والدسائس، إذ يجتمع هؤلاء الفرسان كجوقة نبيلة، تحت شعار "الواحد للكل، والكل للواحد" لتكشف عن توق دفين إلى أي تحالف افتقده الإنسان في دوامة المصالح المتغيرة.
وإذا كانت "الفرسان الثلاثة" تمجيداً للصداقة والشرف والمغامرة، فإن "الكونت دي مونت كريستو"، المنشورة بين عامي 1844 و1846، تعد بمثابة أنشودة الانتقام العظيم. يحكي العمل قصة إدموند دانتيس، الشاب البريء الذي يزج به في السجن بتآمر من ثلاثة رجال استولت عليهم الغيرة والخوف. 14 عاماً من العزلة والظلم لم تمر عبثاً، إذ يخرج دانتيس من محبسه شخصاً آخر، رجل بثروة خرافية، وهوية جديدة، وعقل مسخر بأكمله للقصاص.
غير أن الرواية تتجاوز قصة الانتقام المعهودة، فالانتقام هنا ليس فعلاً لحظياً، بل مشروع وجودي يعيد ترتيب العالم بحسب منطق المظلومية، ويطرح عدداً من الأسئلة حول العدالة، وهل يحق لمن ظلم أن يرد المظلمة بيده؟
يقال إن الكاتب استلهم القصة من حادثة حقيقية وردت في أرشيف الشرطة الباريسية، لكنه صاغ منها شيئاً يتجاوز الزمان والمكان. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن هذه الرواية، تحمل في طياتها رغبة الابن الذي ما زال، على طريقته، يرد لأبيه الاعتبار.
لقد جعل دوما من الأدب محكمة عليا، لا يسقط فيها الظلم بالتقادم، وهو ما وصفه رولان بارت، بنوع من "الحكي القضائي"، إذ يتحول القارئ إلى قاض ضمني في محكمة الأخلاق، يعيد عبر تتبع الحكاية إصدار الحكم على الظلم وممثليه.
بين سيوف الفرسان وسراديب الانتقام، خلف ألكسندر دوما أكثر من 250 مجلداً، تبدو في مجملها كأنها شريط سينمائي قيد المونتاج. هذا الحس البصري الطاغي في كتاباته جعل منها مادة مثالية للتحويل إلى الشاشة، سواء في أفلام أم مسلسلات. ففي نصوصه، تتوافر عناصر المشهد السينمائي المكتمل: انخراط فوري في الحدث، وانتقالات حادة بين المشاهد، وإيقاع حركي لا يهدأ، وتصعيد درامي يأخذ شكل البنية الملحمية التي ستصبح لاحقاً من خصائص السرد البصري.
يبدأ الكاتب عادة بلقطة افتتاحية جذابة، ومشهد يقطع الزمن الدوري المألوف بلحظة تقلب الأحداث، كما نرى في أولى صفحات "الفرسان الثلاثة": شاب يصل إلى باريس ممتطياً حصاناً هزيلاً، يحمل رسالة إلى قائد الفرسان، وبضربة واحدة يجد نفسه متورطاً في ثلاث مبارزات. لا مقدمة ولا تمهيد نفسي، دخول مباشر إلى الحبكة، كما تفتتح أفلام الحركة.
بين سيوف الفرسان وسراديب الانتقام، خلف ألكسندر دوما أكثر من 250 مجلداً، تبدو في مجملها كأنها شريط سينمائي قيد المونتاج. هذا الحس البصري الطاغي في كتاباته جعل منها مادة مثالية للتحويل إلى الشاشة، سواء في أفلام أم مسلسلات. ففي نصوصه، تتوافر عناصر المشهد السينمائي المكتمل: انخراط فوري في الحدث، وانتقالات حادة بين المشاهد، وإيقاع حركي لا يهدأ، وتصعيد درامي يأخذ شكل البنية الملحمية التي ستصبح لاحقاً من خصائص السرد البصري.
يبدأ الكاتب عادة بلقطة افتتاحية جذابة، ومشهد يقطع الزمن الدوري المألوف بلحظة تقلب الأحداث، كما نرى في أولى صفحات "الفرسان الثلاثة": شاب يصل إلى باريس ممتطياً حصاناً هزيلاً، يحمل رسالة إلى قائد الفرسان، وبضربة واحدة يجد نفسه متورطاً في ثلاث مبارزات. لا مقدمة ولا تمهيد نفسي، دخول مباشر إلى الحبكة، كما تفتتح أفلام الحركة.
كذلك الأمر في "الكونت دي مونت كريستو"، الذي يبدأ من مشهد وصول دانتيس، الشاب البسيط، إلى المرفأ عشية زفافه، قبل أن يزج به ظلماً في السجن، لا لشيء سوى أنه حمل رسالة لا يعرف محتواها. لحظة خاطفة تنقله من ضوء الشمس إلى ظلمة القبو، ومن الثقة بالحياة إلى الشك في كل شيء. كأن الكاميرا تغلق العدسة على وجهه في لحظة الذهول، ثم تفتحها مجدداً بعد 14 عاماً، على نسخة جديدة من الشخصية بعد خوض التجربة.
ولعل ما يلفت في هذا المشهد أن دانتيس لم يكن سوى رسول لا يعلم مضمون الرسالة التي يحملها، وكأن الجهل نفسه يمثل عبوراً إلى قدر لا خلاص منه. وعندما تتبدد الظلمة، يصبح الانتقام نفسه نتيجة لفهم متأخر، فإذا بالرواية تنتقل من جريمة جهل إلى ملحمة وعي قاتل.
المكان أيضاً عنده مشحون بحركة الكاميرا، الأزقة الضيقة التي تتيح لعين القارئ أن تلاحق الأقدام الهاربة، القصور المهيبة التي تعرض من الداخل بحس معماري متقن، السجون والأقبية التي يلتقي فيها الظل بالنور، المطاردات التي تنتقل من شارع إلى آخر ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى في حركة تشبه دوران الكاميرا حول الشخصية، أو تبدل الإضاءة بحسب التوتر الدرامي بما يكشف عن وعي بالمنظور والزوايا.
ومثل مخرج يدير طاقم تصوير، كان دوما يدير ورشة كتابة تضم كتاباً مساعدين – أشهرهم أوغوست ماكيه – لكنها خاضعة لرؤيته الكلية، تماماً كما يخضع الفيلم لمنظور المخرج.
هذه الإنتاجية الهائلة تعد رؤية مبكرة للرواية كمنتج شعبي يمكن تخطيطه وهندسته وإدارته، كما تدار شركات الإنتاج السينمائي، وورش الكتابة. ولأنه كان يحكي للجميع، لا لفئة محددة، صعدت شخصياته إلى مصاف الأيقونات، إذ دارت معارك الفرسان الثلاثة على الشاشات، ونفذ الكونت دي مونت كريستو انتقامه على المسرح وفي السينما، مئات المرات. ولم يكن غريباً أن يصعد نجمه في فرنسا والعالم، ويجنى ثروات هائلة راح ينفقها بسخاء، إذ كان عاشقاً للطعام والسفر والنساء.
ألهمت طريقة دوما في نسج الحكايات، بمزج التشويق بالحركة، كتاب الرواية الشعبية، من فيكتور هوغو إلى غاستون ليرو، ومن تولستوي في شبابه إلى كتاب المغامرة والخيال التاريخي في القرن الـ20. كما يمكن تلمس أثره في أدب المغامرة الحديث، من روايات جول فيرن وروبرت لويس ستيفنسون، إلى كتاب مثل ألكسندر سولجينتسين، الذي وجد في "الكونت دي مونت كريستو" استعارة كبرى عن السجن والنجاة، والتحول الصامت الذي لا تصنعه السنوات بل التجربة والمعاناة. حتى كتاب المسلسلات الحديثة، سواء الأدبية أم التلفزيونية، يدينون له بفكرة "البطولة الجماعية"، والحبكة متعددة المسارات، والبنية المتسلسلة التي تتغذى على النهاية المعلقة.
أما أسلوبه البصري، فترك أثراً لا يمحى على كتاب السيناريو. فالحوارات القصيرة المكثفة، والقطع الزمني المتسارع، وتفكيك الفصول على هيئة مشاهد، كلها عناصر تحولت لاحقاً إلى قواعد في "الكتابة للسينما". إن دوما، وإن لم يحمل كاميرا يوماً، كتب بعين سينمائية سبقت الوسيط بما يقترب من قرن، فقد أدرك بحدسه أن البطولة لا تنبع من النقاء، بل من الازدواجية التي تمزق الإنسان بين ما يظهر وما يخفي، على نحو ما عبر عنه أحد أبطاله "جميع البشر يشبهون القمر، لهم جانب مظلم لا يراه أحد."